ثمة حاجة بين وقت وآخر لقراءة تستوعب مشهدا ثقافيا سعوديا، ليست عناوينه فقط الأنشطة الثقافية، أو القراءة التي تتناول إنتاج المثقفين على تنوع مشاربهم واتجاهاتهم وعطائهم.. بل تطال المغزى والفعل والتأثير الذي يمكن يتبلور عنه نشاط ثقافي متراكم يقود الى تلمس نسق يحمل رؤيته وفلسفته وتوجهاته وتطلعاته أيضا. المثقفون السعوديون جزء من مجتمع يقترب من وهج الثقافة تعاطيا وابداعا وانتاجا وقراءة إلا أن ما يغيب عن هذه المشاهد هي تلك القراءات التي تلامس ماهية هذا الدور وقيمته وتأثيره. ما يغيب أيضاً الرؤية التي تكشف التباساته وقلقه وتحولاته وعناصره الفاعلة فيه والمؤثرة في تكويناته، تغيب أيضا تلك الدراسات الاجتماعية التي يمكن أن ترصد مرحلة تحولات يساهم في تكوينها والتأثير فيها مثقف مازال موزعا بين هاجس التأثير على معبر الثقافة أو التوقف أو الانكفاء والعزلة. يحمل المثقف السعودي قلقه مثل أي مثقف عربي، وينهمك في نشاط ربما أحرز فيه نقاطا على طريق احساسه بذاته، أو حشد ومراكمة قراء أو متابعين أو مختلفين معه وحوله. للمثقف السعودي هواجسه وقلقه وارتكاباته. إنه أيضاً بشكل أو بآخر جزء من مجتمع لم تتبلور ثقافته عن أنساق ثقافية يمكن الوثوق بقدرتها على اجتراح نقاط في طريق طويل سمته أنه صعب وشاق، ومجال التأثير يتجاوز النخبة المثقفة الضيقة التي تخاطب نفسها غالبا إلى مستوى القاعدة الاجتماعية التي يشكل التأثير الثقافي احدى أدوات التحول في تعاطيها مع الأفكار والتحولات والاختيارات. ما السمات التي يمكن أن تدفع سياقا ثقافيا يتحول فيه المثقف من مستوى الانهماك المعرفي أو النقد الأدبي أو العطاء الإبداعي إلى حافة الاقتراب من قلق المثقف التنويري المؤثر، والتعبير هنا عن حافة القلق باعتباره نقطة بداية مشروع مثقف يتوقف دوره ايضا في قدرته على إحداث ثغرة في جدار التوقف أو الممانعة. يحمل المثقف الحقيقي، بالإضافة الى تكوينه المعرفي أو منطق إنتاج المعرفة، قيمة أخرى أكثر أهمية وهي المشاركة في قضايا المجتمع والإسهام بشكل أو بآخر في إنتاج المجتمع نفسه من حيث هو حامل لقيم فكرية وإنسانية.. فهو لا يعبر عن طبقة بقدر ما يستهدف التأثير في رأي عام لصالح ما يراه منسقاً مع مفاهيم يؤمن بها، ولا يشارك فقط في إنتاجها، بل يشارك في الدفاع عنها من خلال ممارسة ذلك الدور التوسطي بين النظرية والممارسة. تلك هي النقطة الفاصلة بين مثقف ومثقف، وتبقى مساحات أخرى لدور المبدع أو منتج المعرفة أو المتعاطي من الشأن الثقافي قراءة وتقريضا لكنها تتواضع أمام دور أكثر أهمية وهو ما يطال المثقف التنويري. تتركز مساحة القلق لدى المثقف السعودي في شروط حرية التعبير، وتتحرك تلك المساحة لتتلازم ايضا مع هاجس التأثير. أي هناك عاملان احدهما خارجي يمكن التعبير عنه بشروط الحرية وحدودها، والآخر داخلي حول المشروع الثقافي وعلاقته بالمحيط الاجتماعي وأدوات المثقف في تحقيق ذلك المشروع أو جزء منه. بين البناء الثقافي الصلب والحرية تلازم مشروط.. وأي محاولة لبناء مشروع ذهني يتطلع إليه مثقف منهمك في البحث عن الحقائق وقراءة في الوقائع وكشف التباساتها والبحث عن شروط مستقبل أفضل.. كل هذا لن يتاح له أن يتحول إلى مشروع متماسك قادر على الحياة وقادر على إيقاد تلك الجذوة التنويرية اذا فقد شرطي حرية التعبير وقياس درجة التراكم والتأثير. وإذا كانت حرية التعبير مسألة نسبية، إلا إن الثابت أنها أداة وقنطرة المثقف للعبور بثقة إلى وعي القارئ أو المتلقي. قد يبدو الأمر فيما يتعلق بحرية التعبير اليوم مختلفا نسبياً وعقود ماضية ضغطت فيها هذه المسألة كثيراً على وعي المثقف، فثمة فضاءات أوسع فرضتها التحولات في عالم اليوم، حيث تجاوزت أطر التعبير الوسائل والقنوات التقليدية.. لتصبح مسألة التعبير متاحة على نحو افضل من السابق.. لكن المشكلة ليست في التعبير وحده.. المشكلة بالدور الآخر الذي على المثقف أن يمارسه وهو الدور التوسطي في إنتاج المجتمع ذاته، أي الممارسة التي تخضع لعلاقات القوة والمصلحة في أي مجتمع.. فحرية التعبير اليوم لم تعد هي المشكلة الكبرى، المشكلة الأهم تظل في قدرة المثقف على ممارسة دور توسطي قادر على إخضاع الرأي أو الفكر للممارسة في سبيل احداث ثغرة في جدار الجمود والممانعة. إن مقاومة الدور المكمل لوظيفة المثقف ليس مرده فقط إلى السلطة الضاغطة على عقل المثقف، إن مرده اليوم أيضاً في شهادة الواقع إلى سلطة اجتماعية/ ثقافية غير قادرة على قبول حراك لا تطمئن إليه، أو غير متسق مع وعيها الثقافي بغض النظر عن الوسائل أو الأدوات التي شكلت هذا الوعي.. وهي تملكُ أيضاً مثقفيها الذين يحرسون ذلك الوعي وهنا تبدو أزمة أخرى، يمكن التعبير عنها بالأزمة الداخلية للمثقف، الذي قد ينتمي إلى منظومة فكرية غير قادرة على الحياة في بيئة غير مناسبة، ولذا تبدو هذه الشرائح المثقفة مجرد جزر صغيرة أو تيارات معزولة عن الوعي العام، وغير قادرة على التأثير فيه، مهما استدعت من أدبيات أو توسلت مبادئ أفضل.. وهذا أيضاً يقود إلى الاعتراف بالميزة النسبية الثقافية في كل بيئة اجتماعية. العملُ والحراكُ الثقافي إذا لم يكن من داخل تلك البيئة وعلى تماس مع المنظومة الفكرية التي تؤثر في تشكيل وعيها العام، فإنه لن يكون حراكاً مجدياً.. مع امكانية الأخذ بفكرة أن الانسجام لا يعني التطابق أو التماهي ولكن أخذ تلك المنظومة الثقافية/ الاجتماعية باعتبارها تملك أيضاً مقومات، العمل يتم من داخلها لا من خلال منظومة معرفية أو فكرية لا صلة لها بها. ومن عوامل ضعف التأثير أيضاً ذلك النسق الذهني الذي يحدد موقف المثقف، بدون مرجعية متماسكة من المفاهيم والأفكار، ودرجة عالية من الالتزام.. حيث نجد ان هذا المثقف تلتبس لديه المواقف فمرة يحلق في سماء النقد الباهظ الكلفة، ومرة تجده يبرر أوضاعاً غير قابلة للتبرير.. فهو شديد النقد لأوضاع، متجاهلاً أوضاعاً أخرى أشد خطورة. بما لا يدع مجالاً لقول سوى أنصاف الحقائق، واستجداء هوامش الحلول والبقاء في مربع يتسم بصعوبة الثقة بقدرته على ملامسة وعي المجتمع إلى درجة التأثير. يحمل كثير من المثقفين السعوديين على الايديولوجيا، بينما لم يتسق يوماً وصف مثقف دون التزام منظومة متماسكة من المفاهيم والأفكار. المثقف بلا رؤية ومعايير دقيقة لوزن المتغيرات وتشكيل المواقف حولها لا يعني سوى التخبط والتشوه وعدم انتظام الأفكار والمفاهيم وفق رؤية قابلة للتفسير وقابلة للمحاكمة وقابلة للمواءمة وقابلة للحياة.. ولذا نجد أحياناً ثمرة هذا التخبط يأخذ المثقف ليتراوح أداؤه بين التحليق الجميل والتراجع المذهل. ينفي كثير من المثقفين عن أنفسهم عار الأيديولوجيا بصفتها منظومة شمولية وبناء مغلقا ونهائياً، إلا ان أي نشاط فكري أو ثقافي لا ينتظم في سلسلة مفاهيم تحدد الأولويات والمواقف، دون أن تكون بناء ايديولوجيا مغلقاً أو قاتلاً لمرونة التفكير أو مواءمة المعطيات، لا يعني أيضاً وفي النتيجة النهائية سوى التشتت وعدم الاتساق وانهيار أي منظومة معرفية متماسكة يمكن التعويل عليها في مراكمة الأثر وإحداث التأثير. أزمة غياب المشروع في عقل المثقف، وهي أزمة داخلية تكمن في ذات المثقف، انعكست أيضاً على أزمة خارجية وهي أزمة التعبير، ولذلك لا غرابة اليوم أن يكون ثمة صراع يتخذ اشكالاً عدة بين المثقفين على اختلاف مستوياتهم وانتماءاتهم ميدانه ليس القضايا الكبرى.. إنما هوامش تدور حول خلفية سيئة السمعة يتم الترويج لها عبر واجهات فكرية.. وهي في معظمها خصومات شخصية تتخذ من طابع الأنا عنواناً كبيراً لتحقيق الذات لا تعبيراً عن مشروع مثقف.. ودائماً ما تتم تلك الجدليات عبر واجهات ذات طابع مغرق في الشخصنة تتوسل مسائل غير قادرة على دعم التفاف أقوى حول مسائل أكثر أهمية ومصيرية في بنية التأثير الإيجابي في مستقبل مجتمع. وهاجسُ التأثير تعبر عنه تلك المخاوف من آثار التغيير، وهي أزمة حقيقية على صعيد الوعي الاجتماعي العام. فالتغيير الإيجابي لا يمكن أن يتم بدون انساق ثقافية قادرة على الثقة بمنطلقاته وجدواه، وهذه مهمة المثقف ابتداءً. ومن هنا يأتي الربطُ بين أزمة المثقف الخارجية التي تأتي تحت عنوان حرية التعبير وبين أزمته الداخلية في قدرته على بناء منظومة ذهنية تشكل إطاراً عاماً يتسق فيه حراك المثقف، وينتظم فيه انتاجه ويعول عليه أن يكون ذا أثر متراكم في المشهد الثقافي الوطني.