هل التجاهل التام الذي أحاط بالتصريحات الأخيرة لأفيغدور ليبرمان، وزير خارجية إسرائيل، نتاج حساسية شديدة الانخفاض حيال ما هو مهم ومعبّر، وجهل بالوقائع الميدانية في فلسطين وبالعقلية الإسرائيلية معاً، أم أن تصريحات الرجل تُحرج وتُوقع اضطراباً في اللوحة السياسية كما رُتّبت، وكما تتحرك، مما يتطلب، لو تُرك هذا الاضطراب يتسلل، إعادة نظر شاملة بها؟ خصائص ليبرمان تبيح تبرير التجاهل، فيقال معتوه، وهو الذي اقترح منذ سنوات إغراق مصر وناسها بقصف وتدمير السد العالي! هناك بالطبع جانب الالتفات إلى الجولة الأميركية اللاتينية ثم وخصوصاً، الأفريقية، لليبرمان. إذ تخوض إسرائيل فعلاً، وكما قال هو نفسه، صراعاً على النفوذ في تينك القارتين، ليس مع «العرب»، وإنما مع ما أسماه التمدد الإسلامي، ويقصد به على الأرجح الوجود الإيراني في الموضعين. وهو صراع استخباراتي وعسكري من جهة، واقتصادي وديبلوماسي من جهة أخرى موصولة بالأولى. ويكشف ذلك، مجدداً، مبلغ معاناة «العرب» من تفكك أوضاعهم الذاتية، فلا تبيح لهم أي استراتيجيا. والقول للتسجيل فحسب، لأن الدعوة إلى «تحرك فعال في أميركا اللاتينية وإفريقيا» المتروكتين للعبث الإسرائيلي، ستكون مضيعة للوقت. ما يعنينا هنا هو تأويل ليبرمان للسياسة الإسرائيلية بخصوص آفاق العملية السلمية. فهو صرح إلى صحيفة «يديعوت احرونوت» قبل الجولة الإفريقية، ثم أعاد الكرة إلى الإذاعة الإسرائيلية بينما هو في نيجيريا، بأن «الأمر المهم ليس التوصل إلى حل بل تعلم العيش من دون حل». وحدد أنه «يجب الحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة، وعلى العملية السياسية حية»، مستنتجاً أن «عدداً كبيراً من الصراعات في العالم لم ينته، والجميع يعيش مع ذلك». برنامج كامل يستند إلى رؤية متماسكة. وهي واقعية، تعبر تماماً عما يجرى في فلسطين، حيث، وفي الأيام القليلة الماضية، قررت الحكومة الإسرائيلية بناء خمسمئة وحدة سكنية جديدة شمال القدس، مستخفة تماماً بالديبلوماسية الأميركية التي تسعى إلى إنقاذ ماء الوجه. بل انها، وهذا أفدح من ذلك، تؤخر زيارة المبعوث الأميركي الخاص إلى إسرائيل، فيقال لأسباب فنية، ثم تتوالى تصريحات المسؤولين الإسرائيليين مؤكدة التوافق مع الإدارة الأميركية على التوسيع الاستيطاني الجاري! يلفت ذلك إلى سياسة لي الذراع التي تمارسها إسرائيل حيال الولاياتالمتحدة، والتي تستهدف رفع سقف التطلب الإسرائيلي، مما يضع كل الأطراف أمام ضرورة التأقلم معه، أي التنازل. وهي تترافق مع انجازات على الأرض، منها الطرد المستمر للمقدسيين من أحياء المدينة القديمة، ما يحسم السيطرة على القدس ويعزلها تماماً عن محيطها، ويخرجها بالتالي من التفاوض. كما يشير التوسع الاستيطاني السابق، والمستمر بأعلى وتيرة ممكنة، الى أن واقع تفتيت الضفة الغربية، ووضع المدن والقرى الفلسطينية في معازل، لم يعودا يحتاجان إلى برهان. أما غزة، فقبر مفتوح على السماء. ولتأكيد طابعه ذاك، تُفتعل حادثة ديبلوماسية مع تركيا، على رغم حاجة إسرائيل إليها. وأما فلسطينيو 1948، فعليهم توقيع اعتراف بيهودية الدولة، ما يجعلهم يرتضون وضعية اللامواطن... هذا عدا المضايقات والاعتداءات المستمرة في عكا وحيفا والمثلث، وهذا الأخير معروض للمبادلة مع المستوطنات في الضفة كما نذكر. وقد وقّع محمود عباس ذات مرة في شرم الشيخ، أثناء إحدى جولات «القنوات المفتوحة» تلك، على الموافقة على مبدأ مبادلة الأراضي. هل جُنت إسرائيل؟ تقارع موقف الولاياتالمتحدة، حليفها الذي قال عنه ليبرمان إن الحاجة إليه «مطلقة» (معتبراً ذلك مشكلة). وتستخف باستنكار بان كي مون لقرار بناء الوحدات الاستيطانية الجديدة في القدس، واعتباره مخالفاً للقانون الدولي، وتعامل بالقدر نفسه من الاستخفاف المواقف المتحفظة لسائر الديبلوماسيين الأوروبيين. بل مجنون، في أحسن الأحوال، من لم يزل يراهن على أن «العملية السلمية» ستقود إلى تسوية للمسألة الفلسطينية. أما الانقلاب إلى لفظية «الصراع المسلح هو الحل» فليس أقل سخفاً. فلو كان له اليوم في المعطيات القائمة في منطقتنا أساس، لما اختل ميزان القوى إلى هذا الحد المدهش. لعل ما يمكن التفكير فيه هو كيفية «العيش من دون حل» كما قال ليبرمان. كيفية الإبقاء على الصراع قائماً، من دون افتراض إمكان التوصل الآن إلى تلخيصه في صيغة تسوية. التفكير بكل هذا من جهتنا. وهو ما لم تتجه إليه الجهود، مأخوذة بنقاش تفاصيل اقتراحات ومخططات عقيمة وجوفاء، بمعنى أنها شكلية وموضوعة لتمرير الوقت، تستهدف فعلياً انتزاع التنازل تلو الآخر من صاحب الحق، وصولاً إلى وضعية عارية معادلة للاستسلام. نوع من تجرع السم على دفعات. وفي الحقيقة، لم تعد واضحة وظيفة هذا التدرج، وكل تلك الاحتياطات، سوى أنها تستمهل، وتهيئ في الوقت عينه ما يمكن، بانتظار إيجاد حلول لبعض الاستعصاءات، كوجود حزب الله مدججاً بالسلاح في لبنان، والمسلك السوري المعقد، وربما ما تمثله إيران من تحد (وهو ما يجب قياس مداه بصورة فعلية وليس أخذاً بظواهر الأمور). وقد يمثل حال التحلل الذي يمر به الوضع العربي استعصاء غير محسوب النتائج من الوجهة الإسرائيلية. فهي، وإن كانت تمارس وسطه أقصى عبث ممكن (كما في العراق والسودان)، إلا أنها عاجزة عن ضبط كل آثاره. لذلك، فثمة من يعتقد أن بعض نتائج هذا التفسخ قد تفيض على إسرائيل، وهي مراهنة سوداء بائسة. خوض الصراع وإبقاء عناصره حية يتطلبان مقاربة شاملة، مغايرة لما ساد منذ انقضاء الانتفاضة الأولى التي أفضت، من بين عوامل أخرى، إلى اتفاقية أوسلو. الصراع مع إسرائيل على ملفات بعينها، سياسية بالتأكيد، وإنما كذلك اجتماعية ومطلبية، تتعلق بالحياة اليومية في ظل الاحتلال. وإعادة نسج العلاقة بالعالم على هذا الأساس. قد لا يكون من مصلحة السلطة الفلسطينية، بالمعنى الضيق لكلمة مصلحة، ممارسة ذلك، فهي أوغلت في مسار آخر، وفي سياقه ارتبطت بالتزامات وبعلاقات، وسوى ذلك من التورط. لكنه برنامج كامل لقوى فلسطينية تريد الخروج من شرنقة السلطة وتحقيق وجودها. وبعضها يفعل الكثير. وإنما، لعل ما ينقص هو صوغ ذلك الفعل في رؤية مشتركة، مفتكرة، لا تجيب عن السؤال - الوهم: «ما الحل»، بل تخطط لخوض الصراع بكل أشكاله... ليس إلا. وتلك هي المقاومة اليوم.