كان صديقي الراحل فريد هاليداي واحداً من أهم الخبراء الغربيين في السياسة الإيرانية، حقق شهرة عالمية حين تنبّأ في أواسط السبعينات من القرن الماضي بأن إيران مقبلة على ثورة في وقت بدا البلد فيه واحة للاستقرار والازدهار. حين كسب السيد محمد خاتمي الانتخابات عام 1997 ليصبح الرئيس الخامس للجمهورية الإسلامية الإيرانية، نشر هاليداي مقالاً قصيراً يقترح فيه النظر إلى الرئيس الإصلاحي الجديد كمقابل إيراني للزعيم السوفياتي غورباتشوف الذي أرست سياساته الثورية، البريسترويكا المعيدة لهيكلة الاقتصاد، والغلاسنوست المتبنية للشفافية والعلنية، والانفتاح على العالم الغربي، أسس تقويض النظام السوفياتي (ودولة الاتحاد السوفياتي في ما بعد) وانتقال روسيا إلى نظام تتناسب ديموقراطيته مع تاريخ البلاد الاستبدادي. كتبت لهاليداي متسائلاً إن كانت المقارنة الأقرب للدقة ينبغي أن تكون مع زعيم سوفياتي آخر هو نيكيتا خروتشيف (1953- 1964) الذي خلف ستالين وأدخل، هو الآخر، إصلاحات عميقة على البنية السياسية والاقتصادية للبلاد، لكن تلك الإصلاحات لم تتحدّ قط الركائز الأساس التي قام فوقها النظام السوفياتي: احتكار الحزب الحاكم للحياة السياسية وتغلغله في كل مسامات المجتمع، السيطرة الشاملة للدولة على الاقتصاد وإحكام قبضة الأخ الكبير على توابعه من بلدان أوروبا الشرقية. لعل الفارق بين الزعيمين السوفياتيين لم ينبع من اختلاف في رؤاهما أو طموحاتهما الشخصية. فقد اعتلى غورباتشوف سدّة الحكم معلناً بجزم أنه لن يسمح قطّ بقيام أحزاب سياسية إلى جانب الحزب الشيوعي، وأكّد أن البريسترويكا تعني إصلاحاً للنظام الاشتراكي لا تغييراً له. يكمن الفارق بالأحرى في التغيير الهائل للإطار المجتمعي الذي أحاط بفترتي حكمهما اللتين فصلت بينهما ثلاثة عقود. فحين شرع خروتشيف بإصلاحاته، كان سيف الرعب الستاليني قد أودى بحياة خمسة ملايين روسي وفق التقديرات، وأضعافهم مرّوا على منافي سيبيريا. لكن الجيل الذي عاش ذلك الرعب كان هو نفسه الفخور بالنصر الهائل الذي حققه نظامه على الوحش النازي، وهو الفخور بأنه استطاع نقل بلده من موقع ثانوي إلى ثاني أقوى دولة في العالم، ومن بلد محاصر إلى امبراطورية ذات توابع يعترف بها العالم. كان الشعب، باختصار، يريد تغيير الستالينية لا النظام السوفياتي. تبدو المقارنة بين نظامين سياسيين في بيئتين مختلفتين مغامرة كبيرة، لكنها تنطوي على مقدار من الإغراء. يأتي روحاني إلى الرئاسة وقد انقضى ربع قرن على انتهاء حرب السنوات الثماني المدمرة في العراق، حرب يفخر الإيرانيون بنظامهم الذي أنهاها من دون أن يحقق الخصم هدفاً واحداً من الأهداف التي أعلنها حين بادر بشنّها، على رغم أن هذا الخصم حظي بدعم الغرب والشرق على السواء. حقّاً أن الخميني تمنّى لو أنه تجرّع السم على أن يوافق على وقف إطلاق النار، لكنه كان يأمل بإسقاط نظام البعث في العراق، لا مجرد الوصول إلى نهاية مشرّفة للحرب. ويأتي روحاني على خلفية اختناق اقتصادي نجم عن العقوبات التي فرضها العالم عليه بسبب نشاطه النووي المشكوك في أهدافه. كل هذه عناصر قد تؤمّن له قاعدة أوسع مما حظي به خاتمي من شعبية بين الشباب وأبناء الحضر والمتعلّمين. لكن قطاعاً كبيراً من غير هؤلاء ظل وفيّاً للفقيه وولايته وللمبادئ الطهرانية للثورة الإسلامية. لنقل بتعبير آخر إن الغالبية لم تطرح مشروعية النظام السياسي الإيراني على أجندتها أيام خاتمي فيما تزايد عدد من يشككون فيها اليوم. لا يمكن أكثر مؤسسات استطلاع الرأي مهارة تقنية أن تصنّف مواقف الإيرانيين الراشدين إلى منتقد أو معادٍ لسياسة أو إدارة رئيس في ظل نظام يحرص على بقائه أو لا يرى ضرورة لتغييره أولاً، ورافض للنظام السياسي كله ثانياً، ومؤيد يحمل موقفاً إيجابياً تجاه ما يجري ثالثاً. لكن ظاهرة التجرؤ على رفع شعارات مناهضة للفقيه التي بدأت منذ الانتخابات الرئاسية السابقة، فضلاً عن تمرّد الرئيس عليه وبقائه في الحكم على رغم ذلك يشيان بأن الفقيه المعصوم لم يعد كذلك في أعين كثيرين، بمن فيهم من يحتل موقعاً مسؤولاً، وأن الفقيه نفسه بات مدركاً لذلك. ومع كل هذا، فإن أي خطوة غورباتشوفية غير محسوبة من جانب روحاني لن تكون إلا انتحاراً سياسياً. ذلك أن قفزة هائلة كهذه لن يكتب لها النجاح إلا في ظل سيناريو قريب مما حصل في مصر وتونس، اي استجابة لحركة جماهيرية عارمة ضد النظام السياسي للجمهورية الإسلامية. لعل وجه المقارنة الأهم لنا كمشرقيين يتعلّق برؤية روحاني لعلاقات إيران الإقليمية. في 1956، أغرق خروتشيف هنغاريا بالدماء واحتل جيشه عاصمتها بودابست حين ثارت بوجه النظام الشيوعي. وعلى رغم الإدانات اللفظية من الغرب، كان ثمة إقرار ضمني بأن السوفيات أحرار في التعامل مع توابعهم. في عامي 1989- 1990 لم يفعل غورباتشوف شيئاً، ولم يكن في وسعه فعل شيء، حين توالت ثورات أوروبا الشرقية وبلدان البلطيق. أستبق اعتراضاً وجيهاً مفاده أن الرئيس في إيران ليس صاحب الكلمة الأولى في السياسة الخارجية التي هي ملكية الفقيه بحكم الدستور. إنما لا بد من التذكير بأن قادة الإسلام السياسي، الناجحين منهم على الأقل، هم زعماء سياسيون في الدرجة الأولى. والفقيه يدرك أن ثمة سخطاً عارماً على النهج الشتائمي والعدائي الذي قاد إلى عزلة إيران إقليمياً ودولياً. والفقيه يدرك أنه ليس طليق اليد تماماً في اتّباع أهوائه وتطبيق رؤاه. ومشاهد عودة روحاني من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ذات دلالة كبيرة في هذا السياق. في مقابل القلّة التي رمته بالأحذية والبيض، وفي مقابل إعلان الحرس الثوري اعتراضه على مهاتفته أوباما، احتشدت جمهرة كبيرة مرحبة به. من المرجّح أن الأوائل حظوا بدعم المرشد، لكن هذا يعني أن روحاني استفاد من حيّزه لفرض رؤيته على الأخير. إذاً، لمَ هذا القلق الرسمي العربي من انفتاح روحاني؟ بعد عام من تولّي خاتمي الرئاسة، جمعتني ندوة بأستاذ جامعي يعمل مستشاراً لزعيم خليجي. كان آخر ما توقعت سماعه هو القلق من هذا التحول، إذ هو، في رأيه، مؤشر إلى أن إيران لن تولي كبير اهتمام بعلاقات التضامن الإسلامي التي تشدّها الى محيطها وستسلك نهجاً وطنياً لا يأبه بتلك العلاقات. دهشت لأنني كنت أتوقع أن هذا التطور ينبغي أن يكون موضع ترحيب. ففي كلتا الحالتين انبنت السياسة الخارجية الإيرانية على ما تراه قيادتها تحقيقاً للمصالح الوطنية. لكنها في ظل خاتمي سابقاً وروحاني حالياً لن تغلّف مسعاها بغلاف أيديولوجي يصور تمددها الإمبراطوري رسالة دينية وصل التعكز عليها ذروته مع أحمدي نجاد الذي كان يردد أنه يرى المهدي المنتظر حاضراً عند اتخاذه المواقف السياسية. تتكرر تلك المفارقة المثيرة اليوم. قلق من جانب خصوم إيران التقليديين في مجلس التعاون الخليجي من أن يؤدي التقارب بينها وبين الولاياتالمتحدة إلى منحها ضوءاً، وليكن باهت الخضرة، في التعاطي معهم بتصلّب، في مقابل تقديم إيران تنازلات في خصامها النووي مع الغرب. وقلق إسرائيلي من أن يؤدي التقارب إلى إنهاء التهديد بتوجيه ضربة عسكرية اليها والسكوت عن تدخلها في شؤون سورية والعراق ولبنان وبعض دول الجزيرة العربية. وقلق قوى الإسلام الشيعي العراقي من أن تنكفئ إيران على حل مشاكلها الداخلية، فلا تعود طرفاً يرجّح كفة قوة على أخرى في مجرى الصراعات الداخلية المحتدمة. وقلق لا بد من أن يكون عميقاً من جانب «حزب الله» الذي قد يواجه مأزقاً خانقاً إن أُضيف انكماش إيران عن دعمه إلى انغماسه في المستنقع السوري. هكذا يجمع جديد إيران أطراف الصراعات الإقليمية حول موقف شبه واحد. موقف ينظر إلى العلاقات الدولية كمعادلة صفرية تستتبع كل زيادة في طرف منها إلى نقصان في طرف آخر. من المستبعد تماماً أن يؤدي التحول الإيراني الحذر إلى انقلاب وضعها الإقليمي والدولي. قد تتّخذ إيران الرسمية مواقف أكثر حذراً وتعقلاً تجاه النظام السوري، لكن قوافل الحرس الثوري المباركة من الفقيه خامنئي لن تنقطع عن التدفق لإسناده. والملف العراقي الذي يشرف عليه قائد فيلق القدس سليماني لن ينتقل إلى مكاتب وزارة الخارجية. في كلا هذين البلدين، ثمة مصالح راسخة ورهانات كبرى تمر عبر الترابط مع طواقم الحكم فيهما. فهل سيكون الأمر كذلك مع الحركات الثورية غير الحاكمة؟ إن شعر «حزب الله» بالضيق من روحاني، فلعله محق في ذلك، لأن موضوعة «استنزاف مواردنا وتوجيهها الى الخارج» تكررت مراراً على ألسنة إصلاحيي إيران على مدى السنوات الفائتة. * كاتب عراقي