قبل أن يتوجه الى واشنطن للقاء الرئيس السابق جورج بوش، حرص الرئيس العراقي جلال طالباني على زيارة طهران بهدف استكشاف آخر مواقفها السياسية. وقال له مرشد الثورة علي خامنئي «إن كل المشاكل مع الولاياتالمتحدة قابلة للحل، شرط أن تكف عن التآمر على نظام الجمهورية الإسلامية». ويُستدل من طبيعة المراحل التي قطعتها الثورة الإيرانية ان هاجس التآمر الأميركي ظل يهيمن على سياسة مطلقها آية الله الخميني وعلى الأوفياء لخطه العقائدي من أمثال مرشد الجمهورية علي خامنئي. وكان من المتوقع أن تقود هذه السياسة المتشددة الى تقليد الثورة البولشفية الملحدة، وإلى استنساخ النموذج الستاليني في عمليات تطهير العناصر الفاسدة وتصفية المنافسين على القيادة. وقد مورست عمليات التطهير في عهد الرئيس محمد خاتمي على نحو غير مألوف، خصوصاً ضد الكتّاب والصحافيين ودعاة التيار الإصلاحي. وشعر في حينه المرشد علي خامنئي أن احتفالات إيران بالذكرى العشرين لثورتها، ربما تقود البلاد الى انقسام داخلي. والسبب أن التيار الشعبي وفي طليعته طلاب الجامعات، أوصل خاتمي الى الرئاسة بغالبية 70 في المئة من الناخبين. ومن هذا المنطلق حمل خاتمي شعار «الثورة لتطوير الثورة»، مع وعد بإخضاع كل المؤسسات، بما فيها ولاية الفقيه، لأحكام القانون. كما تعهد بتطبيق برنامجه السياسي وعماده «بناء المجتمع المدني في إيران». كذلك طالب بالانفتاح على المحيط العربي من موقع المصالح المتبادلة لا من موقع تصدير الثورة. وفي الأممالمتحدة طرح شعار «حوار الحضارات» بدلاً من «صدام الحضارات»، الأمر الذي فسرته القيادة الدينية بأنه جسر التواصل مع الشيطان الأكبر، الولاياتالمتحدة. وعندما بلغ خط الإصلاح في عهد خاتمي هذه النقطة الخطرة، تدخل المرشد علي خامنئي باعتباره الولي الفقيه ليحرك وسائله الأمنية عبر الجيش والحرس الثوري (الباسيج) والدرك والاستخبارات. يومها ازدادت موجة الاغتيالات التي طاولت عدداً كبيراً من الكتّاب والصحافيين ودعاة الديموقراطية والانفتاح على الثقافات الخارجية. وقد استخدم المحافظون المؤسسات التي تخضع لإرادتهم من أجل تبرير أعمال العنف، مثل: مجلس الشورى (البرلمان) ومحكمة رجال الدين التي تملك مفاتيح السلطة، ومجلس الخبراء المؤلف من 86 مجتهداً ورجل دين، والذي تشمل صلاحياته مهمة نزع الثقة من الولي الفقيه. خشية اختيار غورباتشوف إيراني قد يدمر كل ما بنته ثورة الخميني، قرر علي خامنئي انتقاء رئيس من قادة الحركة الطالبية التي احتلت السفارة الأميركية في طهران واحتجزت ديبلوماسييها لأكثر من سنة. وقد أثبت محمود أحمدي نجاد أنه الشخص المناسب الذي يطمئن خامنئي الى إدائه، بعكس رفسنجاني وخاتمي اللذين حاولا تعديل النظام بما يلائم طموحاتهما السياسية. خلال ولايته الأولى ركّز الرئيس نجاد على توسيع صلاحيات الحرس الثوري وإطلاق يده في الشؤون الأمنية والسياسية، مقلداً بذلك تنظيم الحرس الثوري في جمهورية كوبا. وبدلاً من تعزيز ترسانة الجيش بالصواريخ، حصر نجاد هذا السلاح بترسانة الحرس الثوري الخاضع لسيطرة خامنئي. وتضم هذه الترسانة كمية ضخمة من صواريخ روسية وكورية شمالية ومحلية الصنع بينها: شهاب (1) وشهاب (3) الذي يصل مداه الى أبعد من إسرائيل وشهاب (6) المعد لضرب مدن على سواحل الولاياتالمتحدة. عقب الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس فلاديمير بوتين لطهران ذكرت الصحف الغربية ان الضيف الكبير أخرج إيران من عزلتها الدولية وقدم لها صفقة صواريخ كانت بمثابة مكافأة مجزية لقاء تجديد أسطولها الجوي بطائرات روسية حديثة. وعلقت الإدارة الأميركية على الزيارة بالقول إن بوتين وعد أحمدي نجاد بدعم برنامجه النووي، على رغم تهديد إسرائيل بتدمير المفاعلات. كذلك وعدته القيادة الصينية باستخدام حق الفيتو في مجلس الأمن، كثمن لصفقة الغاز والنفط التي قُدرت ب 24 بليون دولار. في ضوء هذه التطورات السياسية الملائمة لترسيخ دعائم النظام، قامت قيادة الحرس الثوري بعرض مسلح لاختبار قوتها العسكرية من جهة، وإخافة الدول الصناعية المعتمدة على نفط الخليج، من جهة أخرى. واستمرت المناورات مدة أسبوعين (ربيع 2006) بمشاركة مئة ألف مجند يمثلون مختلف القطاعات. وعقد وزير الخارجية منوشهر متقي في حينه مؤتمراً صحافياً قال فيه ان بلاده ستقفل مضيق هرمز في حال الاعتداء عليها، وإن الهدف من المناورات ليس إخافة الدول العربية المجاورة، بل إفهام إسرائيل وأميركا ان التهديد لا يثني إيران عن نشاطها النووي. بعد انتخاب باراك أوباما، توقعت طهران ان يكون الحزب الديموقراطي أكثر تفهماً لمطالبها، خصوصاً ان اقتناء السلاح النووي لم يعد حكراً على الدول الكبرى. واستخدم أوباما لغة الحوار لعله يقنع القيادة الإيرانية بأن لغة التهديد باقتلاع إسرائيل من المنطقة، لن تساعد على تمرير مشروع صنع «القنبلة الشيعية». ولكن المنطق الأميركي لم يقنع إيران التي رأت في السلاح النووي لدى إسرائيل والهند وباكستان حجة لاتهام واشنطن بالانحياز ضدها. كما رأت ان استخدام قنابل اختراق العمق والصواريخ الموجهة لن يدمر برنامجها بالكامل لأن المنشآت النووية موزعة على مواقع متباعدة بين ناتانز وأراك وبوشهر. يقول المعلقون إن المرشد علي خامنئي فقَد دور الحكم العادل المتوازن عندما أعرب عن انحيازه المطلق لمصلحة مرشحه المفضل محمود أحمدي نجاد في الانتخابات الأخيرة. وبدلاً من أن يوافق على إعادة الانتخاب في بعض المناطق المشكوك في نتائجها، حسم الجدل بإعلان فوز نجاد الذي قبّل يده شاكراً أمام عدسات المصورين. وبسبب تظاهرات الاحتجاج التي استقطبتها حركة زعيم المعارضة مير حسين موسوي، ازدادت قوة المواجهة بين النظام ومعارضيه، الأمر الذي دفع خامنئي الى استنفار «الحرس الثوري» في طهران وسائر المدن المضطربة. ومع دخول الرئيسين السابقين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي حلبة النزاع، اتسعت شقة الخلاف بين قادة النظام وحركة الإصلاحيين على نحو لم تشهده البلاد منذ سنة 1979. وأمام تنامي موجة الاعتراض، شعر الرئيس نجاد بالحاجة السياسية الى توظيف العداء الخارجي من أجل تقوية مركزه الداخلي. لذلك أمر بإجراء اختبار جديد للصاروخ الباليستي «سجيل - 2» على أمل تهدئة الشارع الصاخب بحجة ان النظام يستعد لمحاربة إسرائيل ومقاومة العقوبات الدولية. ولما فشلت هذه المحاولة في لجم المتظاهرين، استغلت السلطة أحداث عاشوراء هذه السنة لتهاجم زعماء المعارضة لأنهم ينفذون سيناريو صهيونياً - أميركياً. وعليه طالبت بإعدامهم لكونهم «أعداء الله». يجمع المراقبون على القول ان ثورة الإصلاحيين على الثورة ستدفع قادة النظام الإيراني الى انتقاء حلين لا ثالث لهما: إما التراجع عن استخدام القوة وإجراء مصالحة وطنية مع زعماء المعارضة، وإما مواصلة المواجهة والعنف ولو أدى ذلك الى ملء السجون وتوسيع القبور. ومعنى هذا ان الحل الأول سيقود الى إضعاف النظام سياسياً... بينما يقود الحل الثاني الى ظهور ديكتاتورية سافرة ترفض التعددية ولو استظل دعاتها مظلة الدين والديموقراطية. وعندما تصل الحال الى هذا المأزق، يكون «الحرس الثوري» قد وضع يده على مصير البلاد والعباد، تماماً مثلما فعلت حركة التطهير في روسيا عقب وفاة لينين واستلام ستالين زمام السلطة المطلقة. عندها فقط يبدأ تآكل النظام من الداخل. وهذا ما يربك الولي الفقيه ويشغل السلطة بمضايقات المعارضة، الأمر الذي يشل نشاطها الخارجي في الخليج ومصر ولبنان وغزة واليمن والصومال وبلدان آسيا الوسطى. هذا الأسبوع اكتشفت إيران في تصريح وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ثغرة يمكنها التسلل عبرها الى ساحة الحوار حول برنامجها النووي. وكانت كلينتون قد أعلنت عدم تحديد مهلة نهائية لمساعدة طهران على الخروج من الزاوية التي حشرت نفسها فيها. ومن أجل تبرير استدارتها السياسية، أعلن قائد الحرس الثوري الأميرال مرتضى صفاري ان قواته ستجري مطلع الشهر المقبل (فبراير) مناورات بحرية ضخمة في مضيق هرمز. والمؤكد ان النظام بدأ يشعر بدنو الحصار الأخير بواسطة العقوبات الدولية، وأن مناورات 2010 ليست أكثر من نسخة جديدة عن مناورات 2006 بهدف إخافة الدول الكبرى من عواقب عملها. * كاتب وصحافي لبناني.