كتب الشاعر الأديب الفرنسي الراحل المرموق جان كوكتو مسرحية «الصوت البشري» La Voix humaine في العام 1930، وقُدمت في العام نفسه على خشبة المسرح الوطني الفرنسي «لا كوميدي فرانسيز» قبل أن تترجم إلى لغات عدة وتقدم في أكبر المسارح العالمية. تروي المسرحية قصة إمرأة تجري محادثة هاتفية مع حبيب العمر الذي غادرها ليتزوّج من أخرى في اليوم التالي. وهي تستعيد ذكريات حبهما ثم تدّعي أنها لم تعد تشعر تجاهه بأي إحساس عميق وتمضي وقتها مع شلة من الأصدقاء في أماكن عامة، قبل أن تعترف له بأنها تكذب عليه وتمضي معظم وقتها جالسة في غرفتها في انتظار رنين جرس الهاتف على أمل أن يكون هو المتصل. ويعاد تقديم المسرحية في حلة جديدة على خشبة مسرح «دو نيل» Théâtre de Nesle الباريسي في قلب حي سان جيرمان دي بريه، حتى السادس من كانون الأول (ديسمبر) المقبل، وتؤدي بطولتها الممثلة الفرنسية المغربية الجذور المولودة في الرباط، سونيا الحوماني، ويخرجها العضو السابق في فرقة «لا كوميدي فرانسيز» برنار بيلان. ويكتشف المتفرج فور دخوله إلى قاعة المسرح، سونيا الحوماني راقدة فوق الخشبة مرتدية فستاناً أحمر، وإلى جوارها هاتف أسود كبير من النوع القديم يرمز إلى أن الأحداث تدور في النصف الأول من القرن العشرين. وبعد دقائق تنهض وتحوم في الغرفة التي يمثلها الديكور المحيط بها، وتتوسل إلى الهاتف طالبة منه أن يسمعها رنين جرسه، وهذا ما يحدث بالفعل بعد فترة وجيزة، إلا أن الشخص الذي طلب الرقم أخطأ ولا علاقة له بالحبيب المنتظر. وبعد دقائق أخرى تبدو في نظر المرأة وكأنها ساعات، وينتاب المتفرج الإحساس نفسه بفضل قوة أداء سونيا الحوماني وعصبيتها التي تنتقل إلى القاعة مثل العدوى، يرن جرس الهاتف من جديد وفي هذه المرة يكون الحبيب هو الذي يتصل ليسأل عن صحة حبيبته السابقة وخصوصاً ليسألها هل عثرت في بيتها على قفازات جلدية محشوة بالفراء ربما نسيها عندها أسوة بملف يتضمن بعض المستندات المهمة. وتتشبث المرأة بهذا السؤال ساعية إلى إطالة الحديث ومنتقلة من موضوع إلى موضوع ومن أكذوبة إلى أخرى لمجرد ألا يقفل الحبيب الخط وأن يستمر في الكلام معها، إلى أن يبوح لها في النهاية بأنه سيرسل إليها سائقه الشخصي من أجل استعادة القفازات والملف، لأن وقته الثمين لا يسمح له بالانتقال شخصياً بخاصة أنه سيتزوج في اليوم التالي. أحاسيس كامنة وإذا كانت سونيا الحوماني لا تنتمي إلى فرقة «لا كوميدي فرانسيز»، فإنها لا تقل موهبة عن أي ممثلة في هذه الفرقة، بدليل أنها تولت في العام الماضي بطولة مسرحية «فيدرا» الكلاسيكية المأسوية الصعبة من تأليف جان راسين، وهي في «الصوت البشري» تحتل الخشبة وحدها طوال ساعة كاملة بطريقة مدهشة مانحة الانطباع في شكل مستمر بأن المكان تسوده الحركة ولا يظل أحد أركانه فارغاً، كما أن صوتها النقي يرن بالأحاسيس المختلفة التي تشعر بها هذه المرأة، ولفظها الممتاز ينقل كل كلمة بوضوح مثالي إلى وجدان المتفرج. إنها تضحك وتبكي وتضحك من جديد وتتكلم طوال مدة العرض وحدها بما أن المتفرج لا يسمع أبداً ما يقوله الطرف الآخر، بل يدركه من خلال ردود الحوماني وتعبيرات وجهها وصوتها وأيضاً صمتها في لحظات محددة والذي يعبر وحده عن أحاسيس قوية كامنة في نفسها. وتختتم الحوماني المحادثة الهاتفية بكلمة أحبك دافعة بالجمهور إلى الصمت طوال لحظات قبل استعادة وضوح أفكاره والانطلاق في التصفيق الحاد. وربما يتلخص المأخذ الوحيد على الإخراج المسرحي في كون الأحداث تدور قبل ثمانين سنة، الأمر الذي يجعل استعمال جهاز الهاتف مختلفاً تماماً عما هو عليه الآن، وهو شيء يُشعر المتفرج بأنه في زمن قديم، ولو نقل المخرج بيلان الحبكة إلى الفترة الراهنة، لكان كل المضمون قد تغير وربما كانت البطلة قد لجأت إلى كتابة الرسائل على هاتفها الخليوي من دون انتظار المكالمة في بيتها.