«لقد قبضنا عليه... لقد مات»، «من أدراك انه هو، وكيف تعلم انه مات؟»، «لقد حصل رجالي على رصاص فضي. الرصاص العادي لا يقتله. انه يتحصن بسحر قوي، لقد حصلت لهم على النقود، وصنعوا الرصاص الفضي والتعويذة السحرية الفاعلة أيضاً»، إذاً، هذا ما كنتم تفعلونه طوال الليل، أليس كذلك؟ لقد كنتم تخشون مطاردته حتى تصنعوا الرصاص الفضي، أليس كذلك؟، «فعلاً، إن الرصاص العادي لا يؤثر فيه. انه محصن بسحر قوي». «ايه؟ ايه... انك لن تصل إليه. انني أراهن ان الذي أطلق النار عليه هو شخص آخر أيها الأحمق»، سيأتون به الآن. هذا جزاؤك يا جونز يا بني! انك ميت كالسمكة. أين كبرياؤك وجبروتك؟ وأين عظمتك؟ الرصاص الفضي يا إلهي. يا إلهي. انه. لكنك ميت على أحسن ما يكون الموت، على أية حال!». بهذه المفاجأة وهذا الحوار يختتم الكاتب المسرحي الأميركي يوجين أونيل واحدة من أقصر مسرحياته، لكنها في الوقت نفسه واحدة من أقوى هذه المسرحيات: «الامبراطور جونز» (التي استقينا بعض حوارها هنا من ترجمة د. عبدالله عبدالحافظ العربية لها الترجمة التي صدرت قبل اكثر من ربع قرن ضمن اطار السلسلة المسرحية التي كان يصدرها المجلس القومي للثقافة والفنون في الكويت). هذه المسرحية كتبها أونيل في عام 1920 لتعتبر في رأي الباحثين واحدة من تجاربه التعبيرية. والمسرحية هذه تعتبر في الوقت نفسه عملاً ملحمياً يكشف في ثماني لوحات عما اعتبره النقاد في ذلك الزمن «مأساة الزنجي الأميركي». وهذا الموضوع يتجلى لنا من خلال حكاية الزنجي بروتوس جونز الذي نعرف منذ اللوحة الأولى انه قد فرّ من السجن الذي كان معتقلاً فيه، الى احدى جزر الهند الشرقية، حيث تمكن من ان يصبح امبراطوراً هناك. من هنا، اذاً، اسمه واسم المسرحية «الامبراطور جونز». وكان يمكن جونز هذا ان يعيش في راحة وأمان في امبراطوريته هذه، هو الذي ما ان «اعتلى العرش» حتى راح يستغل الثروات القومية بقدر كبير من العقلانية التي حققت له رضى الشعب عنه. بيد ان الأوضاع «الدولية» كانت له في المرصاد وبدأت تحرّك ثورة ضده. واذ سمع معلمه السابق الأميركي سميزرز، بهذا، يتوجه الى الجزيرة وكله أمل بأنه عبر التسلل الى «القصر الامبراطوري» سيتمكن من استغلال الثورة التي باتت في الأفق، وفقاً لمصالحه، خصوصاً أنه قد خيل اليه ان ارهاصات تلك الثورة ستربك جونز وتجعله في حاجة اليه. لكن الحقيقة هي ان ما يحدث لا يربك جونز أبداً... إذ ها هو يواصل حياته وسيطرته وضروب استغلاله وكأن شيئاً لم يكن. بل انه، اذ كان قد توقع حدوث ما سيحدث، جهّز لهروبه منذ زمن بعيد، حيث انه ما ان تندلع الثورة حتى يبدأ الهرب عبر الشاطئ واصلاً الى جزيرة آمنة من جزر المارتينيك. وبالفعل يتمكن بتلك الطريقة من النفاد بجلده ويختبئ في واحدة من غابات الجزيرة. ومنذ تلك اللحظة تبدأ عمليات مطاردته للقبض عليه والتخلص منه. ومن ضمن هذه العمليات، تلك التي يمارس من طريق بعض الشخصيات الهذيانية الصامتة التي تنتقل وتتحرك كالبشر الآليين، لأنها في الحقيقة ليست سوى الصورة المجسدة المستنسخة لجونز نفسه. وغايتها ان تدفعه الى الهلوسة حتى يستسلم لمطارديه. والحال اننا منذ تلك اللحظة وصاعداً، وفي كل لوحة من اللوحات سنجدنا في مواجهة جونز الذي بدوره يواجه تلك الشخصيات في لعبة سوريالية ينظر اليها النقاد عادة على انها احد أروع ابتكارات يوجين اونيل في مجال الحداثة المسرحية. اذ هنا، في هذه اللوحات المتعاقبة، نصبح وكأننا في مواجهة مشاهد راقصة، تدور داخل عقل جونز نفسه... وهو مع كل مشهد من المشاهد يبدو واضحاً انه يقترب أكثر وأكثر من نهايته... وهي نهاية تتطابق في الحقيقة مع امعانه في سلوك درب الوعي الداخلي بما حدث له وبما سيحدث. ذلك ان جونز في عالم الهلوسة التي يعيشها هنا، يبدأ بعبور الزمن متراجعاً، في مسار منه سيقوده الى الزمن الجماعي الخاص بالعرق الذي تحدر منه. وهكذا نجده مع الرجل الذي كان هو قتله، ما جعله، أصلاً، يوضع في المعتقل. وبعد ذلك نراه وسط مسيرة اجداده نحو العبودية حين ابتيعوا من جانب تجار العبيد، ثم نراه مع ابناء جلدته على متن المركب الذي قادهم من موطنهم الاصلي الى القارة الجديدة. ومن هنا نعود مبحرين أكثر وأكثر في الزمن لنجدنا داخل الغابة التي كانت الوطن الأصلي للزنوج الذين حولوا الى عبيد... وهناك في الغابة نجدنا وسط مشهد تبجيل طقوسي رائع وأصيل. والرائع في هذا كله هو ان كل هذه المشاهد التي تجسّد هذه الرحلة عبر الزمن، في هلوساتها كما في معانيها العميقة تظل صامتة من دون اية كلمة... فقط هناك صوت الطبول القارعة، هذه الطبول التي اذ تثير الحنين داخل جونز الى ماض لا يكاد، أصلاً، يعرف عنه شيئاً، تثير لديه الخوف في الوقت نفسه. وهو أمام خوفه، وفي حال تبدو وكأنها نابعة من تحرك لا إرادي، يقوم بين لوحة وأخرى بانتزاع ثيابه قطعة وراء قطعة حتى يصبح في نهاية الأمر شبه عار، ما يمثل عودة «الامبراطور» من حالته هذه - التي صنعتها ثيابه - الى حالته الزنجية الأصيلة. لقد انتصر الزنجي فيه على الامبراطور، حتى وإن كان هو قد عجز عن ادراك فحوى هذا الانتصار تماماً. فما هي فحواه؟ في كل بساطة وكما يمكن ان يستنتج كل قارئ او مشاهد لهذه المسرحية بعمق: اذا كان الهرب في الماضي قد ناسب «الامبراطور»، فإنه هنا يبدو غير مناسب، على الاطلاق، ل «الزنجي». ومن هنا يبقى على هذا الأخير ان يرتكب فعلاً أخيراً: عليه ان يقدم «الامبراطور» قرباناً من أجل خلاص «الزنجي». فإنجاز ذات هذا الزنجي لن يكون ممكناً من دون ان يموت الامبراطور... وتحديداً على أيدي أتباعه ورعاياه. وهكذا ينتهي الامبراطور جونز، كما شاهدنا في المشهد الاخير، من دون ان نعرف ما إذا كان قد انهى معه «أناه - الآخر» أي الزنجي جونز؟ حتى وإن كان من الصعب ان نقول ان مسرحية «الامبراطور جونز» هذه تعتبر من الأعمال ذات النهايات المفتوحة. لكن في إمكاننا ان نقول، مع معظم دارسي مسرح يوجين اونيل (1888-1953)، ان هذه المسرحية تعتبر الأكثر اكتمالاً بين أعماله، وتحديداً من ناحيتي الشكل الفني، والمضمون السياسي. بل ان هذه المسرحية هي العمل الذي يبدو فيه بكل وضوح دين اونيل ازاء الكاتب السويدي التعبيري الكبير اوغست سترندبرغ (1849-1912)، كما ان هذه المسرحية نفسها تكشف دين اونيل على الكثير من كتاب النصف الأول من القرن العشرين، من أمثال الدوس هاكسلي، الذي يوجد تشابه كبير بين روايته الكبرى «عالم جديد شجاع» وبين «الامبراطور جونز». ويوجين اونيل، الذي عرف ايضاً بصفته والد زوجة تشارلي شابلن الاخيرة أونا، هو المؤسس الحقيقي للمسرح الأميركي في القرن العشرين رائداً في المجال الإبداعي الذي سيخوض فيه على خطاه معظم كتّاب المسرح في النصف الأول من القرن العشرين في الولاياتالمتحدة الأميركية كما في القارة الأوروبية من أمثال تنيسي ويليامز وآرثر ميلر وصولاً حتى الى ادوارد آلبي وكليفورد اوديتس وإن كان معظم هؤلاء إذ استلهموا قوة مواضيعه ومشاكستها على الواقع الاجتماعي عرفوا كيف ينأون في المقابل عن تعبيريته التي سيكون برتولد بريخت في مرحلته الأولى واحداً من ورثتها الكبار. وقد عرف يوجين اونيل على اية حال بتجريبيته المبتكرة، كما بمضامين مسرحياته التي كانت غالباً ما تسير عكس التيار وسط مناخ مسرحي أميركي كان محافظاً في زمنه. ومن أهم مسرحيات اونيل «رغبة تحت شجر الدردار»، و «القرد الكثيف الشعر» و «رحلة الليل الطويلة الى النهار» و «الاتجاه شرقاً الى كارديف»... وهي أعمال لا تزال حتى يومنا هذا تعتبر من درر المسرح الأميركي بل العالميّ أيضاً. [email protected]