نشرت لجنة النفط والطاقة البرلمانية العراقية في 14 أيلول (سبتمبر) الجاري تقريراً أعدته هيئة المستشارين في مكتب رئيس الوزراء يفيد بأن العراق يخسر سنوياً نحو 40 بليون دولار بسبب أزمة انقطاع الكهرباء المزمنة. ويؤكد التقرير أن الانقطاع المستمر للكهرباء ألحق أضراراً جسيمة بمصانع البتروكيماويات والمصانع الخاصة. ويُذكر أن الكهرباء تنقطع في العراق منذ سنوات بين 15 و20 ساعة يومياً طوال السنة، باستثناء إقليم كردستان حيث يشارك القطاع الخاص في توليد الكهرباء وتوزيعها. صحيح أن انقطاع الكهرباء أصبح جزءاً من حياة المواطن، ولكن انعكاساته البعيدة المدى تفوق الخسائر المادية التي لا يُستهان بها. فانقطاع الكهرباء المستمر يعني الاعتماد على المولدات في البيوت والأحياء، مع ما يرافق تشغيلها من تلوث بيئي، ناهيك عن تضرر الأدوات الكهربائية المنزلية مثل البرادات وأجهزة الكومبيوتر والتلفزيونات، نتيجة الانقطاع المستمر والمفاجئ للكهرباء. وقد تكون هذه الخسائر من نصيب المواطن وليس الدولة ككل، ولكنها خسائر للبلاد لا يمكن الاستهانة بها على الصعيدين الشخصي والمادي. فبالإضافة إلى التلوث، يدفع المواطن المئات من الدولارات لتشغيل المولدات وشراء الوقود لها، إلى جانب ما يدفعه من فواتير كهرباء للدولة. لماذا هذه الحال المزرية في قطاع الكهرباء في العراق ودول عربية أخرى؟ ولماذا يحصل هذا في هذه المرحلة بالذات وليس في الفترات الأولى لاستعمال الكهرباء في الشرق الأوسط قبل عقود أي بعد الحرب العالمية الثانية؟ هل ينقص العراق وغيره من الدول التي تمر بالتجربة المأسوية ذاتها، الأموال اللازمة لتشييد محطات كهرباء؟ طبعاً لا. فالسبب الرئيس يكمن في تفشي ثقافة الفساد وعدم المحاسبة لأن الفساد يشمل كبار المسؤولين في الدولة العراقية. فما يحصل في العراق هو التعاقد مع شركات قليلة الخبرة ما يتسبب بتأخيرات، كما أن التنفيذ المحلي مناط بمسؤولين حكوميين غير متخصصين. فالأمر يتعلق بمشروع أو خطة متكاملة تأخذ في الاعتبار زيادة معدل الاستهلاك السنوي، والوقود الأوفر استعماله في البلاد اعتماداً على ما هو متوافر في الدولة المعنية، وإمكانية استعمال البدائل من طاقة شمسية ورياح لردف الطاقة الكهربائية بإمدادات إضافية، وإمكانية الربط الكهربائي مع دول مجاورة كما هو حاصل في المنطقة بمبادرة من الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والانعكاسات البيئية للبدائل المستعملة، وإمكانية التعاون مع القطاع الخاص للاستثمار في قطاع توليد الكهرباء على أن لا تكون الشركات التي تفوز بالمناقصات مملوكة من قبل أقرباء المسؤولين وأصدقائهم وتفتقر إلى الخبرة اللازمة، ودراسة تسعير الكهرباء بطريقة تساعد في ترشيد الاستهلاك دون الإضرار بالطبقات الفقيرة. وهذا الأمر ليس جديداً فهناك دراسات عالمية كثيرة في هذا المجال. إن أزمة الكهرباء هي إحدى أزمات قطاع الطاقة العراقية، ولكن هناك مشاكل أخرى عديدة، منها نشوء صناعتين نفطيتين مختلفتين في البلاد منذ 2003، إحداهما في الدولة الفيديرالية وأخرى في حكومة إقليم كردستان، والخلافات بينهما متفاقمة ويُحتمل أن تزداد وتسوء نفطياً وسياسياً قريباً في حال بدأ إقليم كردستان بتصدير البترول مباشرة إلى تركيا من دون موافقة الحكومة الفيديرالية وفي مخالفة صريحة للدستور. أما الخطة الطموحة لإنتاج 12.5 مليون برميل نفط يومياً بحلول 2017 فتواجه عقبات جمة، توقعها كثيرون من خبراء النفط العراقيين. والسؤال هو: لماذا هذا الإسراع في الإنتاج في هذا الوقت القصير؟ معروف أن العراق يملك احتياطات نفطية ضخمة تضعه في مصاف الدول الخمس الكبار عالمياً، ومهم للعراق أن يطوّر حقوله المكتشفة، ويدفع قدماً برامجه الاستكشافية للعثور على حقول جديدة. ولكن العراق تأخر طوال العقود الماضية نتيجة للحروب والحصار الدولي. وأصبح معروفاً الآن أن الدفع بهذه الخطة النفطية الصعبة المنال في وقت قصير جداً، وراءه محاولة ردف الموازنة العامة بأكبر دخل نفطي ممكن خدمة لالتزامات سياسية قصيرة النظر، تشمل توظيف أكبر عدد ممكن في وظائف الدولة بغض النظر عن الحاجة إلى هؤلاء الموظفين، ناهيك عن توفير الأموال اللازمة للمسؤولين لشراء ولاء الناس. يُذكر أن انهيار أسعار النفط في أواخر العقد الماضي أخاف مسؤولي الدولة من حصول عجز كبير في الموازنة العامة، ما هدّد بخفض كمية الأموال المتوافرة لهم للتصرف بها كما يشاؤون من دون رقابة أو محاسبة، ثم ازداد الإلحاح على السلطات النفطية لزيادة الإنتاج لتعويض أي نقص قد يحصل في الموازنة. على ضوء هذه الوقائع، اتُفق مع الشركات النفطية العالمية على تطوير حقول العراق المكتشفة. لا يُقصَد هنا انتقاد التعاون مع الشركات الدولية، فمع انهيار مؤسسات الدولة وهجرة أعداد غفيرة من خبراء قطاع النفط العراقيين، أصبح ضرورياً التعاون مع الشركات الدولية، ولكن كان يُفترض الحرص على توفير دور فاعل لشركة النفط الوطنية العراقية في مراقبة تنفيذ الشركات الدولية عقودها وفق ما هو متفق عليه وتوفير فرصة لتدريب جيل جديد من العراقيين المتخصصين. فالمشكلة تكمن في الأهداف المحددة، وهي زيادة الإنتاج من مليونين إلى ثلاثة ملايين برميل يومياً إلى نحو 12.5 مليون برميل يومياً في غضون فترة تقل عن عقد من الزمن وفي بلد يفتقر إلى الاستقرار السياسي ويبقى على حافة الحرب الأهلية. في نهاية الأمر، يعني النجاح في إنتاج 12.5 مليون برميل يومياً خلال فترة قصيرة زمنياً، إتخام الأسواق بالإمدادات النفطية، والتنافس الحاد مع المنتجين الآخرين داخل منظمة «أوبك» وخارجها، ما سيعني الاضطرار إلى الموافقة على حسوم في الأسعار وانخفاض العائدات، أي الحصول على دخل نفطي أقل مما كان متوقعاً، وهذا يناقض الهدف الأول لهذه السياسة النفطية. * مستشار لدى نشرة «ميس» النفطية