عبر عقود مضت، كان هناك شبه احتكار لمصطلحات أو لنقل قاموساً خاصاً، الغرض منه الشتيمة والاتهام، يستخدمه الإسلاميون، وعلى رأسهم المنتمون إلى الإخوان المسلمين لمهاجمة خصومهم. هذا القاموس نما وتغير خلال عقود. بطبيعة الحال، مصطلحات معظمها نسبة إلى تيارات فكرية. وبالتالي، هي أوصاف لا شتائم، لكنها استخدمت في سياقات دعائية أو «بروبوغاندا». من هذه المصطلحات على سبيل المثال، تغريبي، ماسوني، شيوعي، ماركسي، بعثي، قومي، ناصري، حداثي، علماني وليبرالي، وغيرها. غالباً ما استخدمت في سياق تشهير في شكل عشوائي، كان هناك من يحملون أفكاراً يمكن تصنيفها قومية أو حداثية، كما أن هناك من انتموا في عقود سابقة إلى أحزاب شيوعية أو قومية، لكن الاستخدام العبثي من الإسلاميين لهذه المصطلحات أفقدها معناها. فتارة يوصف شاعر بأنه شيوعي، لأنه كتب قصيدة تفعيلة أو قصيدة نثر، بل أطلق البعض اسم «القصيدة الشيوعية» على القصائد التي لم تكن عامودية. وتارة يوصف معهد الإدارة بأنه «وكر الماسونية»، بسبب اختلاف فكري بين المنتمين إليه والإسلاميين. هذه المصطلحات استخدمت في سياق اجتماعي كان مؤهلاً إلى تقبلها. فمن ناحية لم يكن عدد المتعلمين كبيراً، فالبلد ما زال في بداياته التنموية. ومن ناحية أخرى تم نشر هذه المصطلحات عبر المساجد ومطويات دينية، باعتبار المنتمين إلى هذه التيارات، والمستحقين لهذا الوصف، خارجين عن العقيدة الصحيحة من جهة، ويسعون إلى هدم النظام السياسي والاجتماعي في الدولة من جهة أخرى، فكانت اتهامات (دينية - أمنية) في ذات اللحظة. حاول المناهضون للتيارات الإسلامية آنذاك استخدام ذات الأسلوب باستخدام مصطلحات ك«رجعي» و«أصولي»، لكن هذه التوصيفات لم تزدهر إلا بعد أحداث سبتمبر بعد تبنيها من مؤسسات إعلامية كبرى، وذلك بعد إضافة لافتة «الإرهاب» فوقها كشعار تسويقي، لعلها لم تزدهر قبل ذلك الوقت، بسبب عدم تبنيها من جهة قادرة على ترويجها. أذكر في وقت سابق سألت مجموعة من الأصدقاء عن عناوين أوائل الكتب التي قرؤوها في صغرهم، فكان كتاب هتلر «كفاحي» وكتاب وليم غاي كار «أحجار على رقعة الشطرنج» من الكتب التي تكررت في شكل لافت. الكتاب الأول يقوم على معاداة السامية وتحقير اليهود، واعتبارهم القائمين على إفساد العالم كعنصر فاسد في جوهره، (وهذا مختلف تماماً عن معاداة الصهيونية كحركة سياسية عنصرية)، والكتاب الثاني يكشف مخططات الحركة الصهيونية والماسونية لحكم العالم والسيطرة على البشر. الجيل الذي قرأ هذه الأدبيات وهو في المرحلة المتوسطة كان مؤهلاً لأن تسيطر خيالات المؤامرة على تفكيره. ميزة نظرية المؤامرة أنها قادرة على تفسير كل شيء، بذات اللحظة لا يمكن دحضها، فهي أقرب لكونها إيماناً ميتافيزيقياً «غيبياً» منها إلى تحليل سياسي. لذا، لا تجد تقريباً شأناً عالمياً إلا وحيكت حوله قصص المؤامرة، الصعوبة هنا كيف تملك رؤية نقدية صارمة، بخاصة لما ينتشر في وسائل الإعلام كمسلمات، وبذات اللحظة، كيف لا تقع في فخ التفسير الغيبي للأحداث، باعتبار أميركا أو الماسونية أو الحركة الصهيونية.. إلخ تملك قدرة كلية على التحكم بالعالم! هذا التحدي يفشل فيه الكثيرون. جاء الربيع لعربي ليقلب الصورة رأساً على عقب، الأحداث الضخمة التي انطلقت من قرية سيدي بوزيد التونسية، ثم هزت أنظمة عربية شرقاً وغرباً، لا بد أن توازيها هزة في التفكير والتحليل، وهنا انعكست الأدوار تماماً، بالنظر إلى المستفيدين من التغيرات الكبرى. التيارات الإسلامية هي التيارات التي بدأت بالانتعاش بعد الربيع العربي، باعتبارها التيارات المقموعة سابقاً، وتحالفت جزء كبير من التيارات المضادة للتيارات الإسلامية مع المعادين للربيع العربي، وهنا حدث انقلاب ضخم حتى في المصطلحات ونماذج التفكير. أصبح بعض المناوئين للتيارات الدينية يروج لفكرة المؤامرة، وبأن الربيع العربي صناعة أميركية للهيمنة على المنطقة العربية! وهذا لا يأتي في سياق أن هؤلاء ضد الهيمنة الأميركية، ولا لكون الربيع العربي، استخدم كأداة هيمنة، أمراً حقيقياً أو مزيفاً، لكنه لمجرد أن خصومهم امتلكوا زمام المبادرة في دول الربيع العربي. الأمر الأكثر إثارة للسخرية، أصبح المستهدفون بالتشهير من التيارات الإسلامية سابقاً هم من يمارسه مع الإخوان والإسلاميين عموماً، لا بذات الأسلوب فقط بل أيضاً بالعبارات القديمة التي استخدمها الإسلاميون من السبعينات! حتى انتشر بين مجموعة كبيرة من الصحافيين والكتاب وصف الإخوان بأنها حركة ماسونية، واعتبار الأربعة أصابع المستخدمة كشعار لميدان رابعة شعاراً ماسونياً. بدأ هذا في تغريدات موقع «تويتر» ثم تضخم ليصبح برنامجاً تلفزيونية! هنا تسخر السخرية من نفسها. هذه الحال المتناقضة المثيرة للسخرية، لا ترينا فقط تقلب مزاج هؤلاء مع تقلب مصالحهم، بل أيضاً أن طريقة استثارة مشاعر الجمهور لا تتغير. على رغم أن الجمهور تغير كثيراً. فالمراهق من جيل السبعينات أو الثمانينات كان يملك ما يجعل كل أحاديث الماسونية وهيمنة اليهود على العالم، وخيالات المؤامرة وبروتوكولات حكماء صهيون المقبلة من منابر المساجد والمطويات الدينية، أشياء قابلة للتصديق في مخياله، بينما اليوم بات المراهق الذي ولد وفي حضنه شبكة الإنترنت أكثر ميلاً إلى السخرية من هذه الأفكار منه إلى تقبلها. لكن لأن هؤلاء الكتاب والصحافيين ينتمون إلى ذلك الجيل الذي تم تخوينه بهذه الحكايات، فهو يعاود ممارستها اليوم، وكأنه ينتقم من العصا التي سلطت على ظهره لعقود مضت. * كاتب سعودي. [email protected] @BALRashed