يضغط عامل المطبعة أذنيه بأصابعه كمسافر في الطائرة تأثر بالضغط الجوي. دوي الانفجار أصابه بنوع من الصمم،فهو بالكاد يسمع صوت ضابط الشرطة الذي سأله: «إلى أي طريق اتجها؟ ماذا كانا يرتديان؟». يتلعثم العامل المنهار على الرصيف قبل أن يروي محادثته القصيرة مع شابين أرادا ركن سيارتهما أمام باب المطبعة التي يعمل فيها وحركاها بضعة أمتار إلى الأمام بطلب منه ثم غادرا مسرعين لتنفجر بعد ثوان مخلِّفة قتيلاً وعدداً من الجرحى، ومطيحة بالمطبعة وعدد من المنازل القديمة في منطقة البتاوين وسط بغداد. يطرح أهالي بغداد أسئلة يائسة عن الأساليب التي تتبعها المجموعات المسلحة لنقل السيارات المفخخة واختيار الأهداف. وحتى عن ملامح الإرهابيين أنفسهم. يقول عامل المطبعة : «لم أشك فيهما للحظة، كانا يتحدثان بشكل طبيعي، يرتديان ملابس حديثة ويصففان شعرهما بموضة شبابية، لم ألمح أي خوف في عينيهما. كانا يضحكان وهما يعتذران عن وضع سيارتهما الحديثة في هذا المكان: لدينا عمل لن يستغرق دقائق في نهاية الشارع ... رحمة لوالديك». «الإرهابيون ليسوا كائنات فضائية»، هكذا قال خبير أمني: «صورة الإرهابي التقليدي، الذي يرتدي الملابس الأفغانية ويطيل شعره ويتحدث العربية الفصحى، ليست سوى صورة مراوغة، فالحقيقة أن الإرهابيين ينتشرون في كل مكان». عند لفظ كلمة إرهابيين تظهر مباشرة تلك الصورة النمطية لوجوه مثل ابن لادن والظواهري والزرقاوي، كما تستحضر الأيديولوجيا السياسية الإسلامية المتطرفة، لكن الخبير الأمني يقول إن «معظم من ينقل السيارات المفخخة ويركنها ويفجرها لا يملكون أي حس عقائدي، والمفاجأة التي تتحاشى الأجهزة الأمنية كشفها، أنهم لا يمتلكون حساً طائفياً». ويضيف أن :»التحقيقات مع قادة تنظيم القاعدة ومليشيات مسلحة أخرى، بدأ بها ضباط الاستخبارات الأميركية قبل سنوات، وأثبتت وجود عالم مختلف لآليات العنف المفخخ والاغتيالات عن التصور السائد إعلامياً فالمنفذون في الغالب جماعات مأجورة تنتمي إلى مافيات وعصابات من طوائف مختلفة، وهذه لا ترتبط بالتنظيمات المسلحة بشكل مباشر، وإنما عبر وسطاء هم أشبه بمقاولين محترفين ينفذون العمليات لأي جهة كانت». ويتابع أن تنظيم «القاعدة ينفذ العمليات التي تحتاج إلى اقتحام أو انتحاريين، بواسطة كادره نفسه، لكن طبيعة العمليات الأخيرة تؤكد الاستعانة بالوسطاء». خلال 48 ساعة الأخيرة تم تفجير 4 سيارات مفخخة في منطقة واحدة تقريباً، في شارع السعدون وسط بغداد وتفرعاته في حي البتاويين، بالأسلوب ذاته: ركن السيارة في مكان عام وتفجيرها من بعد، وهو الأسلوب الذي اعتمد في معظم العمليات الأخيرة، من ميناء أم قصر في البصرة إلى الموصل. المكان الذي فجر فيه الشابان الأنيقان سيارة مفخخة أمس، لا يشير إلى وجود هدف محدد، ولا إلى النية بإيقاع أكبر عدد من الضحايا، ما يشير إلى أن الرسائل التي أُريد إيصالها أخيراً لم تعد معنية بتفاصيل مكان التفجير وعدد الضحايا، فمجرد تفجير هذا الكم الهائل من السيارات رسالة ذات دلالات كبيرة، منها على ما يقول الخبير الامني أن الكثير من المنفذين ينتمون الى المذهبين الشيعي والسني وإلى عصابات محترفة تعمل بأجور لصالح وسطاء بعضهم مرتبط بشبكات دولية. لكن الخطاب الأمني في العراق لا يشير إلى هذه الوقائع، بل يتمسك بنظريتي «التكفيريين» و «البعثيين» التي أضيفت إليهما أخيراً نظرية «التآمر الخارجي»، وهي صحيحة نسبياً، على ما يقول الخبير :»فالتمويل هو المعيار الوحيد لقدرة التنظيمات المسلحة على تنفيذ عملياتها، سواء بنفسها أو عبر وسطاء». الشابان اللذان تحدث معهما عامل المطبعة لا يوحيان بأنهما تلقيا تدريبات في الصحراء، ف «أقرب وصف لهما أنهما ربما كانا موظفين، أو طالبين يرتديان الجينز التي وشيت بألوان زاهية. لم أشك فيهما أبداً».