صيتها بدأ قبل أن تفتح أبوابها. برامجها شغلت الناس من دون أن يتابعوها. محتواها دوّخ أعتى خبراء الإعلام وأثار دهشة أعظم محللي الأخبار. صالت وجالت في كواليس السلطة من دون أن يستشف أحد السر القابع وراءها. هللت لأولئك ثم نددت بهم. أغلقها بعض القائمين على أمر النظام، وسهل إعادة فتحها بعض القائمين على شل أمر النظام، لكن الأقدار عادت لتغلق القناة ويتوقف البث ويتعرقل الأثير. لم يجتمع الأضداد إلا على قولين: الأول أن القناة لا تمت للإعلام بصلة، والثاني أن كيانها غامض وتركيبتها عجيبة. إنها قناة «الفراعين» للقائم عليها توفيق عكاشة. وهو مذيعها الرئيسي وضيفها الدائم، وهو صاحب أطول مداخلات هاتفية في تاريخ البث التلفزيوني. حضوره طاغ وكلامه متفرد وجمهوره يجمع كل الأضداد. قرى بأكملها كانت تعتبره الملهم الواعي والعالم بالأمور ما ظهر منها وما بطن. وشوارع بأكملها في المدن اتخذ سكانها من قناة «الفراعين» ومذيعها وسيلة صريحة للسخرية وبديلاً متخفياً للمعلومات واستنباط ما يجري خلف كواليس السياسة وفي مخابئ المفاوضات وما هو آت من الحكم أثناء الفترة الانتقالية الأولى عقب ثورة يناير. ضربت الملايين أخماساً في أسداس حول المصادر التي يستقي منها عكاشة، أخباره. قدراته أتاحت له النظر في البلّورة السحرية غير مرة وتوقع ما هو آت على الصعيد السياسي، لكنّ البلورة انقلبت عليه، فانقلب عليها. اعتبر نفسه مفجراً لفعاليات حزيران (يونيو) 2013، وتعامل مع ذاته باعتبارها خلّصت المصريين من حكم الجماعة الظلامية. إلا أن استمرار تضخم الذات أدى إلى شطحات في عوالم انتقادية غير محمودة العواقب، وهي العواقب التي أثبتتها الأيام بتسويد الشاشات. وعلى رغم أنها ليست التسويدة الأولى في مسيرة «الفراعين»، فإنها الأقوى، نظراً الى اجتماع الأضداد على تأييدها. فريق رأى السبب في ظهور المستشار مرتضى منصور على أثيرها وإطلاق العنان لشتائم ساوت بين الجميع. وفريق رأى في إغلاق هذا «الهزل» التلفزيوني نصرة للإعلام، فيما تشفى فريق ثالث بالتسويد حباً بوزير الدفاع السيسي الذي ناله من الإعلام العكاشي جانباً ليس بقليل، وفريق رابع كره حياته في ظل حالة اللبس الإعلامي المتأججة على أثير القنوات المصرية، واعتبر إغلاق أي قناة مكسباً للصحة النفسية ونصراً للحالة العصبية، متمنياً تعميم التجربة على ما تبقى من شاشات. الأسباب الرسمية لتسويد الشاشة تتراوح بين مخالفة ميثاق الشرف (رغم أنه غير موجود)، ومهاجمة «ثورة يناير» (رغم عدم وجود نص تجريم) بطريقة غير مهنية (الطريقة السائدة حالياً)، وفتح الشاشة أمام البذاءات والخروج على القيم الأخلاقية. وفي انتظار عودة عكاشة، كما عاد عقب التسويدة الأولى في عهد «الإخوان»، أو اختفائه، تستمر معاناة المصريين مع شاشات تضرب عرض الحائط بميثاق الشرف العام وليس الإعلامي فقط .