حدّثني جنرال رفيع المستوى في صنعاء الشهر الماضي عن اجتماعه الاخير مع مسؤولين أميركيين. كان الجنرال يأمل بتوضيح طلبه الحصول على مساعدة اميركية عسكرية ومدنية أكبر لليمن. لكن الاميركيين ظلوا يسألونه عن الاحداث في مصر. ويتذكر الجنرال وهو يهز رأسه بأسى: «ظلوا يقولون: ما رأيك في الاخوان المسلمين؟ ماذا يقول لك ضباط الجيش المصري عن (محمد) مرسي»؟ «قلت لهم: «لدينا ربيعنا العربي الخاص بنا، ولدينا الآن حكومة ديموقراطية، ولدينا فقر حاد وحروب أهلية وتنظيم القاعدة. هلا توقفتم عن الحديث عن مصر وبدأتم الكلام عن اليمن»؟ وقال الجنرال انهم توقفوا عن الحديث عن مصر ولكن لفترة وجيزة فحسب، ثم تجددت الأسئلة و «كانوا يريدون ان يعرفوا هل ذهبت الى القاهرة، وهل لاحظت تغيرات بعد اطاحة مبارك»... يبدو ان الأميركيين يعتقدون ان مصر هي أهم شيء في الشرق الأوسط». أجبت بتهذيب أنها مهمة جداً. أجاب: «لا، كانت مهمة»، محركاً يده الى وراء كتفه «لكن ذلك كان قبل زمن بعيد جداً». تميل المؤسسة السياسية المعنية بالسياسة الخارجية الأميركية، اضافة الى وسائل الإعلام الرئيسة إلى النظر الى مصر، عبر عدسات الستينات والسبعينات. في ذلك الحين كانت مصر نقطة ارتكاز العالم العربي، وأهم بلد فيه من دون جدال. وكانت مصدر الفكرة السياسية الأكثر اقناعاً لما بعد الاستعمار: الناصرية. كانت القاهرة المركز الثقافي للشعوب العربية، ومصدر السينما العظيمة والتلفزيون والموسيقى والفن والادب. كانت ساحة نابضة لوسائل الإعلام. وعلى رغم افتقارها الموارد الطبيعية التي يتمتع بها العراق والمملكة العربية السعودية، كانت مصر تتمتع قياساً الى هذين البلدين بثروة ثقافية كبيرة: كانت مركز التعليم وفيها افضل جامعات المنطقة، العلمانية والدينية. وكانت قوتها العاملة مرحباً بها في دول الخليج... لكل هذه الأسباب كانت مصر شديدة الأهمية من وجهة النظر الأميركية، وتشكّل تهديداً لإسرائيل. مصر اليوم ليست أياً من تلك الامور، وذلك لسببين: الشرق الاوسط تغير ومصر لم تتغير. لم تعد القاهرة قلب المنطقة الثقافي: لم تعد مصر تنتج فناً عظيماً او موسيقى او أدباً. مشاهدو التلفزيون العرب يشاهدون الآن المسلسلات العاطفية التركية أكثر، وأشرطة الفيديو الموسيقية اللبنانية وقنوات الأخبار الفضائية القطرية. الجامعات المصرية اليوم سيئة الى درجة تثير الضحك فيما تفضل دول الخليج العمال الفيليبينيين والهنود والباكستانيين على المصريين. والساحة الإعلامية المصرية باتت اضحوكة المنطقة. بعد عقود من الادارة السيئة التي تولاها جنرالات وبيروقراطيون فاسدون، أصبحت مصر حالة اقتصادية ميؤوساً منها. لديها عدد قليل من الموارد القيّمة لبيعها الى العالم، في حين لا يملك شعبها الفقير بأكثريته مالاً كافياً لشراء شيء من العالم. بل ان الصينيين الذين لا يردعهم العنف وانعدام الاستقرار السياسي، لا يقفون صفوفاً للاستثمار في مصر. وبينما كانت مصر تضعف في العقود الأربعة الماضية، زادت قوة عدد من اللاعبين الدوليين وتعززت طموحاتهم. ومن هؤلاء دول خليجية وتركيا - حلفاء للولايات المتحدة (غالباً، على كل حال)، ما يعني ان فائدة مصر بالنسبة الى الولاياتالمتحدة كمحاور عن العالم العربي، تقلصت تقلصاً كبيراً. وربما تكون واشنطن قوّمت عالياً دعم القاهرة لجهودها في سورية لكن مصر التي تحكمها مجموعة من الجنرالات... لا تبدو كشريك يتمتع بصدقية للتعامل مع بشار الأسد. بالنسبة الى الاهتمام الاميركي الحاسم الآخر، لم تعد مصر تهديداً جدياً لإسرائيل. وكان من اللافت ان مرسي بعد انتخابه رئيساً العام الماضي، سارع الى التأكيد للجميع انه سيساند معاهدة السلام بين الجانبين، وتعلم كل الفئات السياسية في مصر (الاسلاميون والليبراليون والجيش) انها في حال خاضت الحرب ضد اسرائيل، ستتحول مصر الى أنقاض. هل تستطيع مصر استعادة مكانتها كمركز للعالم العربي؟ برزت فرصة قبل عامين. كان «الربيع العربي» مستورداً من تونس، لكنه جعل مصر مرة أخرى مختبر فكرة سياسية قوية وجديدة: ديموقراطية ما بعد الحكم الشمولي. ويعني حجم مصر ان تجربتها الديموقراطية ستخضع لمراقبة اقرب من تجربة ليبيا، مثلاً. للأسف، رأينا هذا الصيف ان التجربة فشلت. وبدلاً من ان تسير مصر الى أمام سارت بكامل قوتها الى وراء. واليوم، على تونس وليبيا ان تظهرا ان «الربيع العربي» لم يكن تكراراً بسيطاً لربيع براغ في 1968. يبدو الآن ان ما تعنيه مصر في القضايا الاقليمية والعالمية ليس أكثر من انها مصدر محتمل للمتاعب، ومزيد من انعدام الاستقرار والفساد والعجز يجعلها أرضاً خصبة للتشدد الاسلامي، وعلى الولاياتالمتحدة ان تتعامل معها بهذه الصفة. * صحافي، عن «تايم» الاميركية، 18/8/2013، إعداد حسام عيتاني