اجتمعت الأعراض فوجب العلاج. ثلاثة عقود من الفساد والظلم وحكم الفرد ثم تسلط الشلة، أعقبتها ثورة شحذت الهمم وأججت الأمل، تلتها أشهر انتقالية تحولت انتقامية، مهدت الطريق لتحولات «ديموقراطية» كشفت عورات نظام سابق أفسد التعليم والصحة والسكن فسلّم الشعب نفسه لتجار الدين، وأدى هذا إلى عام من حكم جماعة دينية تحوّلت سياسية ثم انقلبت إلى إرهابية -وفق خصومها- فثار عليها الشعب. وولدت الثورة انقلاباً للإرادة الشعبية على حكم الجماعة، فما كان من الأخيرة إلا أن أعلنت الجهاد «السلمي» الذي تصاعد من اعتصام بالخوذات والدروع والتدريبات القتالية إلى مجاملات لحلفاء الحكم بالإرهاب في سيناء إلى تظاهرات بالأسلحة الآلية... وأخيراً انفجارات وتفخيخات في قلب العاصمة. قلب العاصمة موجوع مثقل مما هو مقبل عليه، ومعه قلوب المصريين وعقولهم التي باتت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار العصبي الشعبي الكامل. وكأن الإرجاء الطوعي لمطالب «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية» لحين اجتياز الوطن هذه المرحلة العصيبة والحرجة لم يكن كافياً، بل تواطأت وتكالبت عليه قوى «الشرعية والشريعة» لتضيف إلى مرارته وتعبه ووهنه على مدار سنوات مضت من الظلم والقهر تارة باسم الحزب الوطني الديموقراطي و «إنجازات» الرئيس مبارك الذي أرّخ لسبعة آلاف سنة حضارة مصرية، وتارة أخرى باسم حزب الحرية والعدالة و ««إنجازات» الرئيس مرسي الذي أعاد اكتشاف الإسلام ديناً لمصر بعد ما يزيد على 1400 عام. وبعد ما يزيد على عامين ونصف من ثورة بدأ المصريون يتشككون في نيات رياحها الربيعية وأصولها حيناً ويرددون مقولة «ليتها ما كانت» حيناً آخر، بات شعب المحروسة قاب قوسين أو أدنى من أن يفقد عقله، إما بمغبة انهيار عصبي حاد ناءت الأجساد عن تحمّل توتراته وتقلباته وتخوفاته وموجات غضبه وقلقه، أو تحت وطأة تكالب «قوى الشر» على إرادته، تارة باسم «لا للانقلاب» وتارة تحت راية «يوم الحد العصر مرسي راجع القصر» وثالثة ب «الشعب يحمي ثورته» ورابعة بسيارة مفخخة هنا أو عبوات ناسفة هناك. نسف ادعاءات سلمية فعاليات الجماعة وأنصارها بحجة مشاهد حية لأسلحة آلية وبرهان تزامن عزل الدكتور محمد مرسي واشتعال الإرهاب في سيناء نسف كذلك أمل المصريين في استعادة إيقاع حياتهم اليومي العادي الخالي من أمارات «الأخونة» أو علامات الاحتقان أو مظاهر المسيرات الإخوانية التي تلوّح بالاشتباكات وتهدد بالاعتصامات، ناهيك عن مسلسل متوقع من التفجيرات والتفخيخات استهل نشاطه بمحاولة اغتيال وزير الداخلية ويبقي على لياقته بعبوات ناسفة هنا وقنابل يدوية هناك. ومن قلق على أوضاع اقتصادية متدهورة، إلى خوف من حكم إخواني فاشل، إلى ترقّب من مواجهة بين الجيش والرئاسة، إلى توتر من اعتصام «ربعاوي» متخم بالتهديد والوعيد والتكفير والتحريض، إلى رفض وكراهية لمسيرات الإخوان العدائية الشتامة، إلى رعب من تفجيرات تم نقلها إلى قلب القاهرة. وعلى رغم الآثار الإيجابية لهذا التصعيد الإخواني من مزيد من الكشف للوجه الحقيقي للجماعة، وتعزيز الاصطفاف الوطني المصري من جيش وشعب وشرطة، إلا أن هذا لا يخفف من حجم الإنهاك النفسي والعصبي الآخذ في التصاعد والذي يضرب المصريين بقوة. هذا الإنهاك الذي يعبّر عن نفسه آنياً بتهوّر في قيادة السيارات مع إمعان في كسر قوانين الطبيعة، ناهيك عن قوانين السير، وإصرار على التخلي عن أبجديات الذوق في التعامل بين المواطنين وبعضهم البعض، وإبداع في رفع راية «أنا وبس» وكأنها رد فعل عكسي لتجاهل الحقوق تحت وطأة الأحداث، وغلبة البلطجة الشارعية حيث أصبحت الكلمة العليا للخارجين على القانون والصبية والبلطجية، مرشح لأن يتحول إلى إنهاك مزمن. فما يتوق إليه المصريون اليوم من أمنيات انتقامية من تيارات الإسلام السياسي لن تحل مشكلاتهم الحياتية، على الأقل على المدى القصير. حل جماعة الإخوان المسلمين، أو حظر تأسيس أحزاب سياسة على أسس دينية، أو القبض على رموز الجماعة وحزبها، أو فضح مشايخ التطرف والإتجار بالدين، أو اضطرار أنصار الجماعة إلى حلق اللحى وغيرها من الأخبار التي تلقى غبطة وسعادة عارمتين، لن تواجه مخططات التفجير والتفخيخ، كما أنها لن تحقق المطالب المؤجلة في شأن «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية». ولهذا، فإن المسيرات ال «عشرية» التي نظمها الإخوان يوم أمس تحت اسم «الشعب يحمي ثورته» قوبلت بردود فعل مختلفة، وإن صب جميعها في خانة كراهية الجماعة. فهناك من انتقد السماح بخروج مسيرات ل «إرهابيين» يدبّرون اغتيالات لرموز النظام، وهناك من غضب لتعثر المرور وإغلاق الميادين تحسباً لعنف المشاركين، وهناك من تساءل مستنكراً «أي شعب يمثلون؟» و «أي ثورة يحمون؟»، وهناك من اتهمهم بالعمالة والجهالة، وهناك أيضاً من بادر إلى سكب دلو من الماء القذر على رؤوس المشاركين في المسيرة أسفل بيته. لكن فعاليات «الشعب يحمي ثورته» انتهت، وتفرقت المسيرات، وعاد الجميع إلى البيت تحسباً لبدء الحظر واستعداداً ليوم جديد قوامه ترقب انفجار مدو جديد، وانتظار تفخيخ إرهابي آخر، وترقب مسيرة مستفزة جديدة، وإعادة إحياء لمطالب «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية» وذلك لحين بدء موعد حظر يوم السبت، وهكذا! لقد اجتمعت أعراض الخوف والقلق والتوتر، فوجب العلاج.