صدر في الدوحة عن «مؤسسة قطر» كتاب فريد للدكتور محمد همام فكري عنوانه «أوائل ترجمات معاني القرآن في اللغات الأوروبية». ويعود اهتمام المستشرقين بالقرآن الكريم ترجمة وطباعة ودراسة إلى البواكير الأولى لتعرفهم إلى معارف الإسلام، إذ قصد بعض الرهبان الأوروبيين الأندلس، ودرسوا في مدارسها، وبدأوا يتعرفون إلى الإسلام والقرآن ونبي الإسلام. وكانت أوروبا تعيش في ظلمات الجهل وقت الظهور، وعندما سطعت شمس الإسلام على مشارف أوروبا تطلع عدد من الرهبان إلى التعرف إلى هذه الحضارة البازغة، وهو ما عبر عنه سير إدوارد روس في مقدمته لترجمة جورج سيل للقرآن بقوله: «إن أوروبا كانت تتخبط في ظلمات الجهل والأمية عند ظهور الإسلام، وظلت منعزلة عن التطورات الدينية في الشرق العربي عبر القرون التي سبقت الحروب الصليبية. ففي أرض فلسطين واجه الغرب المسلمين العرب لأول مرة في التاريخ، وعرفوا أن لمنافسيهم العرب ديناً يؤمنون به وهو الإسلام، وكتاباً يهتدون به في جميع نواحي حياتهم وفي سلمهم وحربهم، وهو سر قوتهم وجامع شملهم». واستمر ذلك في شكل غير معلن حتى منتصف القرن الخامس عشر عندما أعلنوا الحرب على الإسلام بحجة الدفاع عن المسيحية ضد الإسلام الظافر، الذي كان يتقدم في أوروبا، خصوصاً بعد استيلاء محمد الفاتح على القسطنطينية عام 1453، ووجدت أوروبا في ذلك التوسع قوة ومداً جامحاً يجب مقاومتهما، وتبين لها أن لا جدوى من مقاومة الإسلام بالسلاح، فاتجهت إلى إظهار أن القرآن الكريم ليس كلام الله بل من محمد (صلعم) بقصد زعزعة القوة الإيمانية لدى المسلمين أو الذين ينبهرون به من أبناء جلدتهم وهو الهدف التبشيري الذي كان وراء هذه الحركة بخاصة في بدايتها في القرن الثاني عشر الميلادي وما تلاه من قرون. ويقوم رشيد رضا في كتابه «الوحي المحمدي»، هذه الترجمات بقوله: «إن ترجمات القرآن التي يعتمد عليها الإفرنج في فهم القرآن كلها قاصرة عن أداء معانيه التي تؤديها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر. وهي إنما تؤدي بعض ما يفهمه المترجم له منهم، إن كان يريد بيان ما يفهمه. وإنه لمن الثابت عندنا أن بعضهم تعمدوا تحريف الكلم عن مواضعه. على أنه قلما يكون فهمهم تامّاً صحيحاً. ويكثر هذا في من لم يكن به مؤمناً، بل يجتمع لكلًّ منهم القصوران كلاهما: قصور فهمه وقصور لغته نتيجة لصعوبة فهم خصوصية وإيحاءات المعنى اللغوي على غير المتحدثين بها، إضافة إلى جهلهم ببلاغة اللغة العربية التي بلغ القرآن فيها ذروة الإعجاز في أسلوبه ونظمه وتأثيره في أنفس البشر، إذ ليس من اليسير أن ينبري أفراد أو جماعات، لغتهم الأصلية هي غير اللغة العربية، لترجمة أعظم نص عربي، اتسم ببلاغته الفائقة، وأقدس كتاب عند المسلمين رأوا إعجازه في بيانه، لذا فالترجمة تعني تمرس المترجم بكثير من فنون البيان، وجملة من أساليب القول، وضلاعة في اللغة والبلاغة وكفاية المفردات المترادفة والمشتركة والمتضادة». وقد مرت الترجمات الأوروبية للقرآن الكريم بأربع مراحل متداخلة، نجملها وفق الآتي: المرحلة الأولى: مرحلة الترجمة من اللغة العربية إلى اللاتينية، وشملت هذه المرحلة القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين. المرحلة الثانية: مرحلة الترجمة من اللاتينية إلى اللغات الأوروبية. المرحلة الثالثة: مرحلة الترجمة من اللغة العربية مباشرة إلى اللغات الأوروبية من طريق المستشرقين ومن سار في فلكهم. المرحلة الرابعة: مرحلة دخول المسلمين ميدان الترجمة إلى اللغات الأوروبية. واللغات الأوروبية التي ترجم إليها القرآن الكريم ترجمة كاملة حتى الآن ومرتبة ترتيباً زمنياً هي: اللاتينية، الإيطالية، الألمانية، التشيخية، الهولندية، الفرنسية، الإنكليزية، اليونانية، اليوغوسلافية، البلغارية، الرومانية، الدنماركية، الألبانية، الفنلندية والنروجية. وظهرت أول ترجمة لاتينية لمعاني القرآن الكريم بعد حوالى خمسة قرون من ظهور الإسلام. وبعد تدخل مارتن لوثر ونشر أول ترجمة لاتينية لمعاني القرآن أصبح هناك اتجاه قوي في الغرب لا يمانع في ترجمة القرآن إلى اللغات الأوروبية بغرض دحض ما فيه. والترجمات التالية تؤرخ لبدايات الترجمة للقرآن، وتعد ترجمة دير كلوني أول ترجمة أوروبية للقرآن عام 1143م. وينبغي أن نذكر هنا تأسيس البابا غريغوريوس الثالث عشر (1572 - 1587) المعهد اليوناني سنة 1576 والمعهد الماروني سنة 1584 لتعليم الشبان المسيحيين القادمين من الشرق ليتمكنوا عند عودتهم إلى بلدانهم من نشر تعاليم المذهب الكاثوليكي، وقد فضل بعض الشبان المارونيين مثل جبرائيل صهيون الإهدني وإبراهيم الحاقلاني وجرجس عميرة وسركيس الرزي ويوحنا الحصروني، البقاء في أوروبا بعد إنهاء دراستهم. وكان لهم دور كبير في نشر الكتب العربية في روما وباريس ودعم الدراسات العربية في أوروبا بالتدريس والترجمات ونشر الكتب. وفي بداية القرن الثاني عشر الميلادي تطلع علماء المسيحية في أوروبا إلى معرفة القرآن الكريم واستعانوا باليهود والنصارى من أهل الشام وفلسطين للتعريف بهذا الكتاب المقدس، فأوفد بطرس المبجل، وكان يعمل رئيساً لصومعة الرهبان في دير كلوني، عدداً من الرهبان إلى الشام ليتعلموا اللغتين العبرية والعربية. وفي عام 1141 تلقى بطرس دعوة من الإمبراطور ألفونس السابع لزيارته فقام برحلة إلى إسبانيا، وكانت فرصة للاطلاع على كتابات المسلمين، وظل يتنقل بين الأديرة وقابل ألفونس وكان أهم ما توصل إليه هو تكليف مجموعة مترجمين لدراسة وترجمة بعض الكتب للتعرف إلى الإسلام، إضافة إلى توصية بترجمة القرآن الكريم وكان ذلك استمراراً لروح الحروب الصليبية التي تبنتها أوروبا آنذاك وكان هؤلاء المترجمون هم: المعلم بطرس الطليطلي، وهو من عائلة نصارى مستعربين، وكان يتقن العربية، وشارك في ترجمة القرآن إلى اللاتينية. روبرت الكيتوني، وهو إنكليزي، قام برحلات لدراسة الفلك والهندسة عند علماء المسلمين، ولقد اضطلع بدور رئيسي في ترجمة القرآن. بطرس دي بواتييه، وكان راهباً في دير كلوني، وهو الذي قام بمراجعة ترجمة القرآن. الراهب هرمان الدلماطي، أرسله بطرس إلى الشام لتعلم العربية، فبقي ثلاثة عشر عاماً عاكفاً على تلقي دروس علمية في النحو والصرف، وعشر سنوات أخرى في درس اللغة العربية، ورجع إلى الأندلس مدرساً للغة العربية في مدرسة الآباء المسيحيين في مدينة ريتينا. وهناك شخصية غامضة باسم محمد ورد ذكرها مرة واحدة، وكان دوره مساعدتهم لفهم المعنى الدقيق للفظ وقد استغرق عملهم مدة ثلاث سنوات، وبعد الانتهاء من ترجمة القرآن، أودعوا ترجمتهم في دير كلوني، ووضعت تحت تصرف الدارسين من الرهبان وبقيت سراً بينهم لا يطلع عليها غيرهم، وظلت في صورة مخطوطة حوالى 400 سنة حتى اخترعت الطباعة، وجاء في خطاب بطرس المبجل إلى القديس برنار: قابلت روبرت وصديقه هرمان بالقرب من «الأبرو» في إسبانيا، وقد صرفتهما عن علم الفلك إلى ترجمة القرآن. وقد استعانا فيها باثنين من العرب، ونشراها في ما بعد في بلياندر عام 1543. وظلت صحة هذه الترجمة موضع نقد، وقد أجمع الباحثون الغربيون على عدم أمانتها، نذكر منهم بلاشير الذي قال إن هذه الترجمة لم تكن أمينة أو كاملة النص. فقد انبثقت من ذهنية الحروب الصليبية. هذا ما تثبته الرسالة التي وجهها بطرس المبجل إلى القديس برنار، مرفقةً بنسخة من الترجمة التي كانت قد أعدت، كما انبثقت في الوقت ذاته من الرغبة الشديدة في إزالة كل أثر للإيمان الأول من أذهان المسلمين المهتدين. ويقول بلاشير: «وفي رأينا أن الأهمية التي اتخذها القرآن في هذا المجال تجلت في الروح العسكرية التي استمرت حميتها حتى بداية القرن الرابع عشر»، دليلنا على ذلك في الحماسة التبشيرية عند ريمون ولول المتوفى في بورجي سنة 1315م. فقد ظل هذا العمل هو الأساس الذي اعتمدت عليه ترجمات أخرى في العصور الوسطى.