أصبح البشر يواجهون التعري في حياتهم اليومية بصورة لم يسبق لها مثيل، والتعري هنا مجازي وحرفي، إيجابي وسلبي، فعل كشف وفعل إخفاء، نموذج صفاقة وآخر للنفاق. حرفي كما فعلت الفتاة المصرية علياء المهدي بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير)، لتعلن استكمالها للثورة ب«ثورة جنسية»، ثم انضمامها إلى ناشطات «فيمن» اللاتي يحاولن إصلاح العالم بصدورهن العارية! وتعرٍ آخر مجازي نواجهه يومياً في نشرات الأخبار والتقارير الصحافية والمقالات والمواقف والتعليقات على الأحداث السياسية في عالم لا يهدأ، بينما يراوغ البعض، ليمرر طرفاً من الحقيقة على وجل. ويكليكس وأسانغ مارسا نوعاً من التعرية السياسية - المعرفية الإيجابية. فتحولت أحاديث الديبلوماسيين الودية في حفلات السفارات الهادئة إلى عاصفة تحليلات وتفسيرات، كما نُشرت المذكرات الداخلية بين السفارات الأميركية ووزارة الخارجية، إذ تم افتضاح كل شيء، بما فيها تلك المقترحات الغبية التي قيلت بصورة عابرة، ولم تؤخذ بجدية، وبما فيها تلك النكات الباردة التي كانت لتمر من دون أن يعبأ بها أحد، لولا أن الأسترالي أسانغ وعبر «ويكيلكس» كان له رأي آخر. وكذلك عرى سنودن وجه قيم الحرية الأميركية بفضح ملفات مشاريع التجسس على الكل، الديبلوماسيين في الأممالمتحدة، الوزراء في الاتحاد الأوروبي، مستخدمي الإنترنت حول العالم، وعملاء بعض شركات الاتصالات المحلية، والمصارف في الخليج، كل شيء تحت السيطرة، والأخت الكبرى «أميركا» تراقبك دائماً أو إخوتها الصغار «أوروبا». مورس التعري بصورة أخرى مثيرة للغثيان في برلمان بلاد الأنوار فرنسا عندما أصبحت المعلومات التاريخية تُقر عبر تصويت الساسة في البرلمان، فلو كان لك رأي آخر حول مجزرة الأرمن التي ارتكبها الأتراك فراجع نفسك مراراً وتكراراً، ففرنسا لن تقبل منك هذا الرأي، بسبب تصويت برلماني يجرّم إنكار مجزرة الأرمن، كما جرّم البرلمان قبل أعوام إنكار أو التشكيك في «الهولوكوست»، والنتيجة أن برلمان بلاد الأنوار وحرية التفكير والبحث أصبح عائقاً أمام تلك الحرية، وقيداً على «العقلانية» المدعاة. عصر التعري لا يقف عند هذا الحدّ بل يتجاوزه إلى أن ينال الرئيس الأميركي باراك أوباما جائزة نوبل للسلام، وهو الذي لم يقم بأي سلام، لا لحظة منذ استلامه الجائزة في بدايات حكمه، ولا حتى هذه اللحظة مع الفترة الثانية من رئاسته، فالمعارك تُدار من البيت الأبيض، وحلف شمال الأطلسي في أفغانستان، والطائرات من دون طيار «الدرونز» والمرتبطة في شكل مباشر بالرئيس الأميركي، تصول وتجول من أفغانستان وباكستان حتى القرن الأفريقي، مروراً باليمن و(شمال أفريقيا) ليبيا. إذ إن صانع السلام المفترض يرتكب، ربما، أكبر عمليات اغتيال في التاريخ، مستهدفاً بضع عشرات «لا يتجاوز الخمسين»، والضحايا أكثر من أربعة آلاف إنسان بحسب التقديرات! إنه عصر التعري، إذ يُمنح الجائزة، لأنه أول رئيس أسود للولايات المتحدة أو يُمنحها بسبب وعوده الانتخابية أو لأنه خريج هارفارد أو أي شيء آخر! في مقابل أنه ما زال يحتجز مساجين في خليج غوانتانامو خارج الأراضي الأميركية، ليفعل بهم ما يشاء على غرار أي زعيم مافيوي يمارس فعله بجدارة. إنه عصر التعري عندما تأتي القوى العظمى ممثلة بالولايات المتحدة الأميركية، والأممالمتحدة ممثلة بأمينها العام، لتعلن «خطها الأحمر» في سورية، متمثلاً باستخدام النظام للسلاح الكيماوي في قصف المدنيين، وكأن الرسالة «اقتلهم بالرصاص، بالسكاكين، اقتلهم بصواريخ سكود، واقتلهم بالجوع والعطش»، لكن هناك خطاً أحمر، أن تقتلهم جميعاً دفعة واحدة بسلام وبلا عذاب أو أن تؤذي جيرانك «إسرائيل» برائحة القتل، لذا اقتلهم بلا رائحة، وردّهم على هذا القتل سيكون بالمزيد من القتل على الأرجح حماية لإسرائيل من أن تخرج الأمور عن السيطرة بانهيار مفاجئ للنظام. إنه عصر التعري عندما تقود الدعاية «البروبوغاندا» الأميركية العالم، فالتحسين والتقبيح لم يعد قول الشريعة كما جادل الفقهاء، ولا فعل العقل كما قال متكلمون، ولا حتى بناء على المنفعة كما طرح رجال السياسية أو الحس السليم كما جادل الفلاسفة، بل أصبحت أميركا هي معيار القبح والحسن، حتى أنها باتت مرجعاً في كل شيء، لنجد عبارة: «حتى في أميركا... » تغزوا حواراتنا من دون أن نشعر، لنضعها سلطة فوق أية سلطة. إنه زمن التعري عندما تشتم إيران، لأنها تدار من «الملالي»، ولأنها «دولة دينية»، وتمدح إسرائيل يومياً، لكونها «دولة ديموقراطية»، بينما يعيش الجميع في صمم عن سماع ترديد القادة الصهاينة لعبارات من قبيل «يهودية الدولة»، وكأن «يهودية» هنا لا تعود على دين بل على نوع من أنواع المأكولات البحرية! عندما توصف أكبر دولة (عنصرية - دينية) في التاريخ بأنها دولة ديموقراطية، فهو زمن التعري والبلادة الصفاقة. التعري ليس فعلاً مرذولاً دائماً، فما أجمل الحقيقة عارية! وما أجمل أن نرى التناقض والنفاق عارياً! لكن ما يُثير الغثيان أن الأمر ليس على هذا المنوال دائماً، فأغلب ما يعرى ليس الكذب والخداع بل ضعفنا وبؤسنا، ضعف البشر وبؤس هذا العالم الذي نعيش فيه، والذي يقتات منه الآخرون على جهلنا وعوزنا وقلة حيلتنا. * كاتب سعودي. [email protected] BALRashed@