في الأسطورة الإغريقية عندما فتح باب (باندورا) خرجت منه شرور العالم: الجهل والفقر والجشع والمرض وسواها، وعاثت في الأرض فساداً, كعقاب ضد البشر لسرقتهم سر النار من الآلهة. وتظل كثير من صناديق التاريخ مليئة بالجراح والفظائع التي يفضل العالم أن تبقى مقبورة في كتب التاريخ بدلا من استجلابها من على الأرفف وإعادة بث طاقاتها السلبية على وجه الأرض. لكن ما الذي دعا فرنسا لاختيار هذا التوقيت لتفتح صندوق التاريخ , وتستصدر قانوناً عبر برلمانها يدين الإبادة الجماعية للأرمن في الدولة العثمانية؟ يقول الناشط الفرنسي المعارض لصدور هذا القانون والعضو في جمعية (الحرية لاجل التاريخ) كريستيان ديلبورت(نحن ضد التاريخ بصيغته الرسمية ونعتبر انه يجب الا يكون هناك من عائق على عمل عالم التاريخ. ولكن منذ اللحظة التي يصدر فيها قانون هناك مخاطر بالملاحقة القانونية). لذا تنطلق علامات الاستفهام حول سر استرجاع ملف عمره أكثر من قرن ولطالما مثل لتركيا حساسية بالغة في المحافل الدولية . في هذا التوقيت الذي تحاط به المنطقة بطوق من الاضطرابات السياسية والثورات الشعبية . وحتى إن كان (ملف مجازر الأرمن) يخدم الحملات الانتخابية الفرنسية القادمة ولكنه حتما سيكسر التفافاً وتحالفاً دولياً قوياً ضد مجازر نظام الحكم في سورية , ليس هذا فقط بل إن هذا القانون سيخلخل علاقات اقتصادية وتجارية كبيرة بين باريس وأنقرة . ولكن لو راجعنا المشهد من منظور تاريخي ونقبنا خلف المشهد الدبلوماسي الرصين المتحفظ , وشعارات حقوق الانسان الدولية لاكتشفنا أن الصراع الديني مابرح يلعب دوره في لاوعي الشعوب منذ زمن الحروب الصليبية إلى وقتنا الحاضر. فالدولة العثمانية التي ارتكبت المجازر ضد الأرمن المسيحيين سقطت وانتهت وأصبحت تاريخاً , وكان أول شيء فعله مصطفى أتاتورك بعد قيام تركيا الحديثة 1924هو الاعتذار للأرمن عن المجازر التي ارتكبت ضدهم من على منبر البرلمان التركي , هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى يخبرنا التاريخ أنه في الحرب العالمية الثانية ارتكب الجيش التركي مجازر ضد الأكراد في قرية(درسيم) التركية , ولكن لماذا لم(تدول) هذه المجازر وتنتقل للمحاكم الدولية ؟ هل لأن القاتل والقتيل من المسلمين ، وبالتالي العالم المتقدم أو فرنسا غير معني بدمائهم؟ ولو ظللنا نتتبع المجازر التي ارتكبت ضد البشر ونطالب باعتذار وسن قوانين ، فبالتالي سنبدأ بمنطقتنا العربية التي مابرح إنسانها مسجى على مذبح العنف والقتل أقربها حرب إسرائيل ضد لبنان عام 2006 - ومجزرة صبرا وشتيل ا- ومجزرة دير ياسين .. وسنمر بالمجازر التي ارتكبها الجيش الفرنسي في الجزائر ورواندا.. و(القائمة تطول)، دون أن يجرؤ العالم الحر (كما يسمي نفسه) على إدانتها. أعتقد أن الموضوع لا يتعلق بالبعد الإنساني والتعاطف مع الأرمن بقدر ماهو خوف وتوجس من الهلال الذي يقع على أطراف أوروبا ويحاول أن يبزغ في مدنها مجاوراً للصليب, وفرنسا من أوائل الدول التي تقف بقوة ضد انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. قد نستجيب لمجازر التاريخ عبر ذاكرة جمعية تدين وترفض, وأيضا من خلال إحياء للذكرى وإصدار قرارات وتكريمات وتعويضات مالية محتملة، لكن ليس عبر سن قوانين تشل التاريخ بالكامل . فكندا قدمت اعتذاراً رسمياً وتعويضات مالية للهنود الحمر, كذلك استراليا لسكانها الأصليين(الأبورجنيز) ولكن قضية سن قانون في البرلمان الفرنسي, ستصبح من خلاله تركيا هدفاً للمحاكمات الدولية. صندوق باندورا التاريخي مليء بالمآسي والشرور ولكن كما تقول الأسطورة اليونانية كل الشرور خرجت من الصندوق وانتشرت في العالم, ولم يبق للبشر في الصندوق.... إلا فضيلة الأمل..