الفقر، العوز، التشرّد، التهجير... لم تقف مأساة اللاجئات السوريات في لبنان عند هذا الحدّ فقط، إنما تجاوزت كلّ الخطوط الحمر لتصل الى حدّ «المتاجرة» بهن تحت راية تأمين السترة لهن في ظلّ الوضع الأمني القائم في سورية وأحوال اللاجئين السوريين الصعبة في لبنان. فانتشار حالات الزواج من لاجئات قاصرات لم تتجاوز أعمارهن أحياناً الثانية عشرة بات ظاهرة خطيرة، خصوصاً أنّها تتمّ غالباً برضا الاهل الذين يجدون أنّ تزويج بناتهن أرحم لهن من العيش في المخيّمات «الفوضوية» والتعرّض للتحرّش والاعتداءات الجنسية. إلاّ أنّ مثل هذه الزيجات تحمل هي أيضاً الكثير من المخاطر الكبرى تتجاوز تأثيراتها ما يمكن أن تتعرّض له الفتاة داخل تجمّعات اللاجئين أو خارجها. مهرٌ بعشرين دولاراً! من المحافظات اللبنانية المكتظة باللاجئين السوريين، محافظة عكار حيث وصل عددهم الى حوالى مئتي ألف لاجئ، ما يمثّل خمسين في المئة من مجموع عدد السكّان في المنطقة. وفي إحدى خيم اللاجئين، كان اللقاء بالحاج خالد وهو أب لثلاث فتيات وشاب، وقد زوّج إثنتين من بناته القاصرات لرجلين تردّدا مرّات عدّة على التجمّع ليسألا عن وجود فتيات للزواج. ولشدّة العوز، قبل الحاج خالد بمهر عشرين دولاراً عن كلّ فتاة، فالمهمّ بالنسبة اليه أن تصبح بناته على ذمّة رجال آخرين ليؤمّنوا لهن الحماية ويحسّنون من مستوى معيشتهن. إلا أنّ الحاج يعبّر عن ندمه لزيجة واحدة من فتياته، فقد وصلت اليه الأخبار بأنّها تُعنّف داخل منزلها لأنّها لم تحمل بعد، بسبب شدّة الضغوط التي تعرّضت لها في سورية ولبنان. أمّا الفتاة الثانية فلم يُعرَف عن مصيرها شيء بعد، فقد اختفت وزوجها تماماً كما يقول الحاج. وتقود الضائقة الاقتصادية أحياناً الى أكثر من ذلك، ففي التجمّعات يتردّد الكثير من الأخبار حول تحوّل فتيات قاصرات تمّ تزويجهن رغماً عنهن إلى حياة الليل، بعدما تبيّن أنّ أزواجهن يمتهنون استغلال الحاجات المادية للأهل لسرقة لمحات الطفولة من الفتيات وجعلهن أداة للتسلية والترفيه لا أكثر من ذلك. قضية زواج القاصرات من اللاجئات السوريات فتحت الأبواب للنقاش في لبنان حول تأثيرات مثل هذا الزواج النفسية والجسدية على الفتاة القاصر، خصوصاً أنّ البعض منهن يصل الى حدّ الانتحار لعدم القدرة على تحمّل هذه التأثيرات. وتقول المعالجة النفسية رلى عاصي: «إنّ القاصر تواجه الكثير من المشاكل أبرزها ما يرتبط بالجانب النفسي، فهي تُحرَم من عاطفة والديها ومن عيش طفولتها، ما قد يؤدي إلى حدوث أمراض نفسية كالهستيريا والاكتئاب والقلق. كما أنّ العلاقة الزوجية تكون مضطربة، بسبب عدم إدراك الطفلة طبيعة هذه العلاقة. وتضيف المعالجة النفسية، أنّ الفتاة القاصر غالباً ما لا تتكيّف مع واقعها الجديد وما يترتّب عنه من مسؤوليات من ناحية الاهتمام بالزوج والاعتناء بالمنزل وإنجاب الأطفال، ما يمكن أن يؤدي إلى الانتحار أو هروبها عبر إدمان الكحول أو المخدّرات. من الناحية الصحّية، تحذّر الدراسات الطبّية الحديثة من زواج القاصرات لأنّه يؤدي إلى مخاطر جسدية كبرى، ذلك أنّ جسد الفتاة لا يكون مستعداً للتجربة الزوجية ما يؤدي إلى الكثير من الاضطرابات وتأخر الحمل والولادة المبكرة. وحتّى مواليد هذه الفئة من الزوجات يعانون من مشاكل صحّية كاختناق الجنين في بطن الأمّ أو ولادته مبكراً ما يسبّب له الكثير من المضاعفات. ولأنّ الطفل يولد في بيئة غير متجانسة ولا تكون والدته قادرة على تربيته في الشكل الصحيح، تقول عاصي إنّه يكون هو أيضاً مهدّداً بالإصابة باضطرابات نفسية كالفصام والاكتئاب. «لاجئات لا سبايا» الاستغلال غير الإنساني للظروف القاهرة التي تعاني منها اللاجئات القاصرات لا ينحصر بالفتيات السوريات فقط، فاللاجئات الفلسطينيات لا يسلمن من الأمر، حيث تتشابه الأسباب من ناحية الضائقة الاقتصادية والتهجير والحرمان. وتقول عفاف، فلسطينية في العشرين من عمرها، انّها تزوّجت في عمر الرابعة عشرة وبات لديها طفل، لكنّها لم ترَ يوماً جميلاً بعد في حياتها الزوجية. عفاف تزوّجت من رجل لبناني أوهم أهلها بالغنى ودفع مهرها حوالى خمسمئة دولار أميركي، ولكنّها سرعان ما اكتشفت أنّها ستعيش مع حماتها في منزل صغير ضمن احد الأحياء الشعبية. وعذاب عفاف الأكبر يأتي من والدة زوجها «التي تجدني مقصّرة في كلّ شيء وتردّد على مسمعي أنّ ابنها انتشلني من الشارع وأنا مديونة له»، وتستدرك: «على رغم أنّني لا أعيش حياة أفضل من تلك التي كنتُ أعيشها مع أهلي». ولمواجهة هذا الواقع الصعب الذي تتعرّض له الفتيات القاصرات، انطلقت حملات التوعية من جانب الجمعيات الأهلية والمنظّمات المدنية المحلية والدولية ومنها مؤسسة «أبعاد» ومنظّمة «يونيسيف» والهيئة الطبّية الدولية، بهدف الحدّ من حصول هذا الزواج. وترى الناشطة الاجتماعية انتصار مراد أنّ لا حلّ إلاّ بإيجاد مخرج لمأزق الفقر والعوز الذي يعاني منه اللاجئون على مختلف الأراضي اللبنانية، معتبرة انه الحلّ الوحيد للحدّ من تزويج القاصرات وانتشار شبكات الدعارة وغيرها من الظواهر غير المرغوب فيها. وربما تكون الحملات التي تنطلق عبر شبكات التواصل الاجتماعي ذات تأثير إيجابي في مواجهة ظاهرة زواج القاصرات أيضاً، حيث شكلّت حملة «لاجئات لا سبايا» نقطة انطلاق للكثير من الحملات الاخرى، خصوصاً أنّها نظّمت بالتعاون مع الجمعيات الأهلية لتأمين الإرشاد والتوعية لكلّ نازحة سورية مهما كان البلد الذي تقيم فيه حالياً.