دالت دولة «الإخوان»، تلاشت من حلبة السياسة وباتت ذكرى قومية أليمة في اللاشعور الجمعي. سقطت شعارات الاتجار بالدين. تجلت الحقيقة في بشاعتها حين اتخذت الكذب مطية إلى الصدق، أخفقت في الحفاظ على السلطة والدفاع عن شرعيتها ومشروعيتها، استطاعت بجدارة وحنكة أن تحشد ضدها مشاعر الكراهية والبغضاء من جموع المصريين، تفوقت بامتياز في شق طريق العودة من حيث أتت، أذهلت الدنيا بما قدمت من نموذج حي للفشل الاستراتيجي. إن الجماهير المصرية العريضة انتظرت يقيناً من الجماعة «الإخوانية» مشروعاً إبداعياً سياسياً يكون قوامه العدالة المطلقة والحس الوطني والوعي التاريخي والضمير الأخلاقي والتفكير الموضوعي والشعور الديني المحرك للملكات الذاتية الدافعة بفاعليتها نحو الانطلاق، في حين لجأت الجماعة الإخوانية إلى تحصين الذات بالمهاترات والمغالطات والأضاليل والاستخفاف المفزع بالمصريين وأطاحت سمعة دولة عريقة توسمت أن تدخل تاريخياً جديداً بعد عقود من التأزمات لا مرحلة من التاريخ تكون أشد قتامة، بينما تحصين الذات الحاكمة لا يتجلى إلا باكتمال الرؤية الاستراتيجية واستلهام أسس وأساليب الذكاء الكوني والإلمام بمفردات العلم المعاصر وما يؤازر ذلك من قوامة فكرية مدعومة بشخصية رصينة لا تكبّد الصالح الوطني أعباء اقتصادية وسياسية بل وثقافية تعمل على طمس هويته التاريخية وإتلاف مفاهيمه وثقافته العتيدة في أبعادها التنويرية. بينما لم يستند التيار الإخواني في تبرير وجوده - في ظل موجات الرفض الشعبي - إلا إلى منطق الشرعية باعتبارها صكاً سياسياً ضامناً لأبدية السلطة رغماً عن أن هذه الشرعية في مضمونها ومحتواها تحمل معاني عدة وتتشعب إلى منطلقات كثيرة منها لغة الإنجاز والفاعلية وتأكيد الوجود وإبراز الدور التاريخي وإقالة الوطن من العثرات والمآزق المحدقة به من كل حدب وصوب والتعامل مع التبعات المتلاحقة بمنطق المسؤولية والتكنيك، لا بطرائق الكهنوت الديني واعتماد الغيبيات في عالم الشهادة والخلط الفظيع بين المجهول والمعلوم. إنها الترجمة الفعلية لتلك الذات التي سعت عمراً مديداً لامتلاك مقاليد السلطة ثم أهدرتها في لحظة. إن صفعات التاريخ لا تغير مسارها مطلقاً، إذ تتجه دوماً نحو أولئك الذين عصفوا بدروس التاريخ وحكمه وتجاربه ومعطياته وظروفه ولم يحفلوا بالقيم الإنسانية واعتبروا الأديان دساتير سياسية وباتت شهوات السلطة متفجرة في دواخلهم مؤرقة لعقولهم وأخيلتهم فغدوا عبيداً لسطوة المال وهيبة السلاح. وعلى ذلك ما هو الوزن النسبي لمعنى الوطنية داخل السرداب الإخواني بعد أن انسحب عنه بريق السلطة ونشوتها إلا ترويع مصر وإحراقها وإبادتها؟ ونحو أي صوب تتجه البؤرة المركزية للتنظيم الإخواني وأين ستكون معاقلها؟ وما تجليات المشروع الإخواني المستقبلي... هل سيكون مشروعاً تصحيحياً تقويمياً أم تتجه مساراته نحو اعتماد القوى الخارجية في دعمها داخلياً ومنحها دفعة تستعيد بها ذاتها؟ وهل استوعب التيار الإخواني زخم التجربة السياسية المصرية طيلة عام، أم أنه يحتاج إلى عقود عدة لإدراكها؟ وكيف لجماعة لم تصمد أمام المشكلات المؤسسية والهيكلية بينما تفتخر بقوتها المادية وبنائها الأيديولوجي وتعلن تحديها السافر للدولة وشعبها وجيشها؟ من ثم هل هناك من موضع للمصالحة الوطنية والجماعة مصنفة لدى أقرب حلفائها كتنظيم إرهابي كما أكدت وثائق ويكيليكس؟ وهل لتنظيم كهذا أن يفوض في حماية الأمن القومي المصري؟ وكيف لفصيل سياسي أن يقبل ويرتضي توظيف ذاته كركيزة ومحوراً وآلية في تنفيذ المشروعات الغربية المستهدفة تقويض أركان الدولة بل وتفتيت المنطقة العربية بأسرها؟ من ثم كيف يكون هذا الفصيل عوناً لمصر ضد القوى المتربصة؟ وكيف لم تختر أميركا بعناية الحليف المناسب، لا سيما بعد يقظة الوعي المصري والعربي؟ وعلى ذلك كيف يمكن استعادة التيار الإخواني واحتواؤه في النسيج الوطني وقد تكشفت نياته وأوراقه وما يضمره مستقبلاً ويؤكده حاضراً ومارسه ماضياً؟ وخاتمة الغرائب كيف لفصيل سياسي أن يطالب بالعودة لتولي السلطة بينما خسر كل مشاهد التغيير السياسي بفضل ضعف خبرته الدافع إلى ارتكاب أخطاء استراتيجية فادحة كما أكد الخبراء الاستراتيجيون في «نيو يوركر»، و «كريستيان ساينس مونيتور». ولعل أصدق كلمات في توصيف الاستراتيجية الإخوانية وغيرها من التيارات الدينية رددها الشاعر أدونيس قائلاً: إن الدين اليوم طاقة سياسية وحين تقترن بطاقة المال يتحول الإيمان الديني إلى رأسمال سياسي مادياً وروحياً، والإيمان بوحدة كيانية لا تتجزأ بين الدين والدولة يتضمن بالضرورة الإيمان بأن العنف هو جزء عضوي من الفكر والعمل والأخلاق ويتضمن أيضاً أن للعنف في كل وجوهه شكلاً من أشكال القداسة. إن المصريين الذين أثقلتهم الخبرات وصهرتهم القرون لم يستطيعوا أن يعايشوا كوميديا الأخطاء أو يتكيفوا معها ولم تنطل عليهم زيف أقنعة أولئك المنشقين عن المجتمع فكراً وثقافة وسلوكاً وتاريخاً وديناً ونفساً وعلماً، الذين حققوا في سذاجة مطلقة العزلة الحضارية لمصر وطوقوها بدستور يستبيح أرض الوطن. فمنذ متى يتم تجهيل الحدود الجغرافية للدولة المصرية لتكون محلاً للمرابحة السياسية؟ ومنذ متى أيضاً تسلب الهيئة القضائية سلطة تفسير المقصود بالشريعة الإسلامية؟ نعم إن الغرب لم يجد غير هؤلاء في جعلهم أفضل وقود يمكن أن تستعر به المنطقة العربية، نعم أيضاً لم يجد عنصراً حيوياً استراتيجياً أفعل ولا أمضى من الدين وكيميائه الخاصة الساحرة مع التيارات الدينية المتشددة ليأتي يوم مشهود أصبحت فيه الإخوانية أحد أهم ضحايا أفكار هنري كيسينجر وبرنارد لويس وبريجينسكي، فباتت لا ترتجي الآن - وبعد أن تجردت من كل المسوح - إلا استعادة التمثيل الغربي على المسرح المصري باعتبار ما كان لها من شرعية هشة أو تقويض مصر والإجهاز عليها لتقديمها جثة هامدة بتشكيل مجلس حرب، بينما يعلن بلير للمجتمع الدولي إزاء الأزمات المتوالية على الساحة المصرية: إننا لا نستطيع تحمل فكرة انهيار مصر! لكن النصيحة الصادقة للتيار الإخواني والتي يجب استحضارها من لسان ديغول هي: اختر الطريق الأكثر وعورة لأنك لن تصادف هناك منافسين! * كاتب مصري