مفهوم الشراكة الاجتماعية المدنية، ليس بالضرورة نفياً للديني من محيط المدني الخالص. وإنما هو التقاء متسامح على المتفق عليه في الديني؛ ليكون معبراً عن الهوية المدنية للمتنوع الاجتماعي ليس الأمر مدنياً خالصاً؛ فيحضر جان جاك روسو في مثل هذا التنظير لمجتمع لايزال في طور التكوّن، وإنما هو مجرد توصيف حذر، يقارب آفاق الإشكال الاجتماعي؛ للحد من شراسة الايديولوجي؛ ولفرض الاقامة الجبرية على اجندته التي يعمل عليها منذ عقود؛ ابتغاء هيمنة كاملة - لا يرضى بما دونها - على تفاصيل الحراك الاجتماعي. إنها مجرد محاولة متواضعة لرسم الحدود الفاصلة، التي تعين على ترميم بنية السلام الاجتماعي، وتحد من غلواء التظالم بين الاخوة، بعد أن طغى - وبغى - طوفان الايديولوجيا. لن يكون من السهل تجاوز الايديولوجيا. ففي كل دين - أي دين - مقدار منها؛ لا قوام له بدونها. لكن، ليس من مصلحة الاجتماعي أن تتصاعد الأدلجة في الطوائفي والمذهبي والحزبي؛ إلى أن تكون أداة صراع واحتراب بين تنويعات الاجتماعي. وإذ نؤكد وجود هذا البعد الايديولوجي؛ فلن نوافق جوستاف لوبون في تأكيده على أن التعصب واللاتسامح يشكلان الصفة الملازمة لكل عاطفة دينية؛ من حيث طبيعة الدين. نحن نبحث عن المدني، ولكن في محيط متشبع بالديني. ولا إشكال هنا؛ لأن التضاد - من حيث الأصل - ليس إلا وهماً مسيطراً، حكمت به ظروف الانفصال - والاتصال أحياناً!- في سياق الهم الحضاري المعاصر. وهم التضاد كان نتيجة ظرف، وليس حتمية طبيعية في أي منهما؛ إلا في سياق الفهم المغلوط، خاصة إبان موضعة المفردات النظرية في الواقع المتعين. مفهوم الشراكة الاجتماعية المدنية، ليس بالضرورة نفياً للديني من محيط المدني الخالص. وإنما هو التقاء متسامح على المتفق عليه في الديني؛ ليكون معبراً عن الهوية المدنية للمتنوع الاجتماعي، والتي لابد لها - مهما أغرقت في الحياد المدني - من هوية ترتكز إلى كثير من المطلق والنهائي. التأزم الحاد - وأحياناً الصراع المباشر - يأتي؛ عندما تحاول الايديولوجيات الخاصة بفئة ما - والتي تتجاوز المشترك الايديولوجي - فرض هيمنتها على بقية الفصائل الأخرى؛ تحت ذرائع دينية في الغالب، وإن تكن الذرائع المدنية ليست بغائبة عن الحقل السياسي خاصة. لكن، تبقى الذريعة الدينية هي الأكثر حدة ودعوى ثبات، ومن ثم، فهي الأشد استعصاء على التكيف مع تغيرات الظرف المدني الذي يمارس ضغطاً كبيراً على الدعاوى الايديولوجية في علاقتها مع الواقع. ليس سراً أن كثيراً من الايديولوجيات التي نتقاسم معها الواقع المدني بمؤسساته المتنوعة - تنوعاً في قربها وبعدها من الديني - تسعى إلى أدلجة ما يقع تحت تصرفها من مؤسسات. وهي لا تجحد هذا العمل من حيث هو واقع، وإنما تنكر الأهداف النهائية المراد تحقيقها من خلال هذا الاحتلال الناعم للمؤسسة المدنية؛ مع أن كثيراً من أهدافها معلنة في صميم الطرح المؤدلج، الذي لا تستطيع البراءة منه بحال من الأحوال. إنها تسعى للهيمنة على مناحي المدني؛ جراء تماهيها مع الايديولوجي الذي تحتمي به كهوية وكشعار، ولكنها تتجاهل مدنية الموضوع الذي تخضعه لفاعلياتها المؤدلجة. إنها تنظر إلى الضفة التي أتت منها - وهذا من حقها، وهو أمر طبيعي في كل تيار مؤدلج - ولكنها لا تنظر إلى الضفة الأخرى التي تريد أن ترسو عليها. إنها لا تريد أن تدرك ان هذه الضفة مرسى للجميع، أي للمشترك الاجتماعي، وليست للخصوصيات. كثير من هذه الممارسات ذات النفس الدغمائي لم تكن مجهولة من قبل. لكن الانفتاح الإعلامي والاتصالاتي ألقى عليها الكثير من الأضواء التي جعلتها في مرمى أبصار الجميع. جماهيرية الإعلام المرئي إنتاجاً واستهلاكاً، وكذلك الانترنت على نحو أكثر جماهيرية، كانت كفيلة بتعرية الشعور المضمر - من قبل بعض الفصائل - بالتعالي على الجميع، وكيف أنها تتصور نفسها مرجعية لكل حراك وسكون في المجتمع، دينية ومدنية. فضيلة الإعلام الجماهيري انه يمنح الجميع فرصة التعبير؛ دون خضوع منه للشرط الثقافي أو المهني الموجود في الإعلام المؤسساتي، والذي يبعد - بطبعه - كثيراً من شرائح الاجتماعي عن فرصتها في إمكانية البث والشكوى، أو حتى العبث والتزوير. في الإعلام الجماهيري، وفي صورته الأقل رقابة ومسؤولية، حيث تغيب الأسماء والصور، ينفتح المجال للتعبيرعن التصورات الذهنية والعقائد والأخلاقيات، ويظهر الموقف الحقيقي للمتطرف - من كل فريق - تجاه أنواع الحراك الاجتماعي، وهو الموقف الذي قد لا يجرؤ على البوح به باسمه الصريح! قد يتصور الكثير منا أن المسألة مجرد تعبير حر عن الآراء، أو أنه موقف يعبر القائل أو الكاتب فيه عن الرضا أو السخط من هذا الأمر أو ذاك. لكن، من يتأمل المدلول العام لكل حالات السخط خاصة، يجد أنها تكشف عن رغبة محمومة في الهيمنة، وفي تطويع الجميع لأدق تفاصيل رؤاها. وهي رغبة لا تقف عند حدود التعبير، بل تتخذ كثيراً من وسائل الضغط؛ بغية تحقيق الوصاية..! في الحوارات التي تبث على الهواء مباشرة، حيث المنحنيات الحادة للمباشرة، يكون موقع المؤدلج موقف الملزم بوجهة النظر؛ لا موقف المخيّر بينها وبين وجهات النظر الأخرى. تطفح على السطح لغة متعالية، تتحدث بلسان الوجوب والإلزام، بعد ربطها بلغة النص الأول، حيث لا اعتراض. من يعترض - أيا كان منطلقه في الاعتراض - فهو إنما يعترض على النص، وليس على الرؤية المطروحة في سياق الحوار. ماهية الحوار؛ من حيث هو حوار، يفترض فيه ان تغيب النصوص التي ينطق من خلالها المحاور، تغيب عن مسار الرؤية الخاصة، في حين، تحضر النصوص التي تدعم المشترك الاجتماعي القائم على المشترك الديني. وليس هذا إيماناً ببعض الكتاب، بل هو إيمان بالكتاب كله؛ بأعماله من حيث مقاصده الكلية التي ضمنت الكرامة للجميع، أي لبني آدم، في {ولقد كرمنا بني آدم.. الآية}. مفردات الأدلجة الرائجة في بيئتنا المحلية - والتي تمايز بأكثر مما تشاكل - أو ما تتقاطع معها ذرائعياً، يجب أن تكون خارج إطار العقد الاجتماعي المدني. مقتضى إيمان كل فصيل اجتماعي؛ يستلزم إعمال مفرداته الايديولوجية كافة. لكن، ما العمل؛ إذا كانت هذه المفردات تتضاد مع أولويات ايديولوجيا الآخر القريب (الشريك الاجتماعي)؟، بل، ما العمل؛ إذا كانت تتضاد مع بدهيات حقوقه المدنية؟ إذن، لا حل إلا بتنازل كل فصيل اجتماعي عن البعد الايديولوجي، خاصة في منحاه المتضاد أو الصراعي. أزمة الإسلام مع المعاصرة؛ تكمن في الوعي السلفي (ليس المراد هنا: التيار السلفي، بل الوعي السلفي، بوصفه نمط تكفير، ومنهجاً في التصور والرؤية، وهو موجود في الأديان والطوائف كافة). حل اشكاليات الراهن إحالتها على اشكاليات الماضي؛ يعمق الإشكال ولا يحله. نجاعة حلول الماضي؛ تستلزم التطابق في جميع التفاصيل وبكل المستويات بين وقائع الماضي ووقائع الراهن. وهذا مستحيل؛ إلا بالتضحية براهنية الراهن أو بمثالية الماضي. إن هذا الواعي السلفي الذي لايزال - للأسف - يحكم الذهنية الإسلامية عامة، فضلاً عن الأصوليات الحركية المسيسة في عالمنا الإسلامي، وهو مصدر القلق في الداخل الإسلامي، ومصدر القلق منه في الخارج أيضاً. لا يمكن التغاضي عن مشروع أصولي؛ مهما كان مضاء بأضواء قيم التنوير المدنية؛ مادام الوعي الكامن في ثناياه مشدوداً - بوعي سلفي - إلى أعماق الماضي السحيق. تجربة الإخوان المسلمين السياسية في مصر خير شاهد على هذا الوعي السلفي المأزوم. فالجماعة بعد ما فقدت عبقريها الأول (البنا) القادر على اجتراح الحلول العملية في صور تكاد تكون نهائية - مهما قيل في ميكافيليتها - لا تزال تتخبط في رؤاها؛ جراء ارتهانها إلى قطعيات ماضوية، في الوقت الذي تريد فيه الانغماس إلى آذانها في مجرى الحدث الواقعي. إنها حالة عامة، تعكس حجم التأزم الذي يواجه الأصوليات الإسلاموية، عندما تجد نفسها في مواجهة مع الواقع مباشرة. حالة من الاضطراب، لا في التطبيق، فلم يحن أوانه بعد، وإنما في الطرح النظري لمسائل مزمنة، كانت - ولاتزال - تلح عليها بغية تحديد الموقف النهائي بوضوح. ومع أن عمر الجماعة يتجاوز الثمانين عاماً، إلا أنها - كما يظهر - ليست كافية للتفكير في مشاكل بعمرها من حيث العراقة والقدم. هناك مسألتان عالقتان في المسيرة الاخوانية. فمسألة الأقباط من جهة، ومسألة المرأة من جهة أخرى. المسألتان ليستا من الهامشي أو المرحلي، ومن ثم، فلابد أن يكون الموقف منهما متبلوراً - على نحو واضح وتفصيلي - في الرؤية الاخوانية، وهذا ما لم يكن. واضطراب الاخوان فيهما؛ يعني اضطراب الإسلاموية المعاصرة فيهما بأطيافها وتنويعاتها اضافة على أن غموض الرؤية في هاتين المسألتين؛ يعني أن الرؤية فيما سواهما أشد غموضاً واضطراباً. لازال الإخواني يعالج المسألة القبطية بواسطة مفاهيم أهل الذمة. ولذلك نراه مضطرباً بين مسلّمات القضية الفقهية قديماً، وبين مفهوم المواطنة المعاصر، وهو مفهوم مدني صرف. سلفية الإخواني أوقعته في مأزق حقوقي، مأزق لا يقتصر على العملي، بل يتحدى تنظيره المعلن. لهذا، نجد القبطي في التنظير الاخواني الأكثر انفتاحاً وتسامحاً!، مواطناً كامل الأهلية، ولكن باستثناء منصب رئاسة الدولة. وهذا الاستثناء يضرب الأهلية المدعاة في الصميم. أحياناً يكون البعد السلفي واضحاً تمام الوضوح في الأطروحة الاخوانية؛ فيصبح القبطي مواطناً، ولكن معفى من الخدمة العسكرية، دون التصريح بثانوية المواطنة هنا! أما في حالات قليلة، ولكنها دالة، فالمواطن القبطي (ذمي)، ولابد من الجزية والصغار. هذا الاضطراب الكبير والتاريخي في موقف الإخوان من المسألة القبطية، لا يقل عنه اضطرابهم في المسألة النسوية، بل ربما كانت مراوغتهم فيها أكبر؛ لأنها تمس آليات التجنيد للجماعة. أي انها خطاب يمس المسلمين المراد احتواؤهم في الجماعة، فليس خطاباً حقوقياً للخارج فحسب، وإنما للداخل بالدرجة الأولى، على العكس من المسألة القبطية، فالخطاب فيها موجه إلى القوى الدولية بالدرجة الأولى، وما يخص الأقباط منه، فهو ليس إلا لكونهم قنطرة محلية إلى تفهم تلك القوى الدولية للمشروع الاخواني. لازلت أذكر - قبل سبع سنوات تقريباً - كيف أن مأمون الهضيبي في لقاء مباشرعلى احدى الفضائيات - وكان آنذاك نائباً للمرشد العام - لم يستطع أن يبين موقفه بوضوح من مسألة الحجاب. المذيعة - ولم تكن محجبة - سألته تحديداً: هل سيسمح لها بالدخول إلى مصر على هيئتها تلك؛ فيما لو حكم مصر؟ لم يستطع أن يعطي جواباً واضحاً، وهو المحامي المدرب. كان صعباً عليه أن يقول لها بأنه سيلزمها، وكان أصعب عليه ان يقول لها - على الملأ - بأنه سيمنحها حريتها في ذلك! وعلى خطى الهضيبي وجدنا ممثل الإخوان في سوريا يعاني هذا الاضطراب في مقابلة له على قناة الجزيرة. لم يكن ايراد الاخوانية هنا، كمثال على حيرة الايديولوجيا واضطرابها في علاقتها مع الواقع عبثاً. فالإخوانية هي الأبعد تاريخاً بين الايديولوجيات الإسلاموية المعاصرة، وهي أكثر انفتاحاً وتسامحاً وتفهماً للواقع. فإذا كانت هذه حالها؛ فما بالك بغيرها من الايديولوجيات الحركية التي تتجاوز الأبعاد السلفية إلى النصوصية الصماء؟!، وهي - مع الأسف - الأكثر حضوراً في واقعنا المحلي. كما أن استقطاب مثال عام ذي طابع متنوع، يعفينا من التحديد في مسميات محلية، لا يمكن تناولها دون الاصطدام بحساسيتنا التقليدية تجاه النقد. إن هذا ليس إلا محاولة لفض الاشتباك الايديولوجي المحتقن. اننا لا نريد في علاقتنا مع الايديولوجيات ان نبدأ من حيث بدأ الآخرون فلم ينتهوا حتى الآن من احترابها. لابد من التأكيد على مدنية حراكنا الاجتماعي، وأن العقد الذي يجب الالتفاف حوله هو العقد الاجتماعي المدني الذي يضمن التساوي في الحقوق والواجبات. لا طائفية ولا مذهبية ولا مناطقية ولا جنسوية. التمييز جريمة. هذا ما يتردد في الاطروحات النظرية المعلنة، أو في أكثرها على الأقل. لهذا فلابد من قانون واضح وصارم لتجريم التمييز والمعاقبة عليه، وخاصة التمييز الجنسي ضد المرأة في أي صورة كان. لابد أن ينغرس في أعماق كل مواطن أن الجميع متساوون تماماً، دون تعنصر من أي نوع، ولكل بعد ذلك خصوصياته التي يراها ويختارها؛ دون فرضها على الآخرين، ودون الإخلال بمبدأ المساواة المقدس. لأجل ذلك؛ يجب أن تكون الخصوصية - أيا كان نوعها - بعد ذلك المقدس وليس قبله، وإلا بقينا رهن صراع لا ينتهي، سواء كان منظوراً أو غير منظور. لابد أن يدرك المؤدلج أن العقد الاجتماعي المدني لا يمنحه أكثر من حرية إبداء الرأي (المؤدب) في سلوك الآخر. وبعد ذلك، فليس على أحد بمسيطر.