مع طرقات الثورات الشعبية في الوطن العربي بالتوازي مع صولة شبكات التواصل الاجتماعي وبخاصة المنصة الزرقاء «تويتر»، حدثت ثورة من ناحية علياء القلاع النخبوية الثقافية العربية التي ظلت تتحاكى وتتصادى طويلاً في ما بينها من دون أن تضع في حساباتها استخدام الخطاب الشعبي والهم الجمعي المشترك، أو التثاقف مع ألوان الطيف الاجتماعي باعتباره عالماً لا يستحق أو لا يمتلك إمكان الاستيعاب، أو الإفادة بوصف هذا الطيف (العامة) عالماً من البسطاء المعوزين ثقافياً وإدراكياً كما لو كان هؤلاء المهمشون بحسب النخبة الفكرية أرقاماً لا تمتلك الوعي والتأثير. ما حدث في لحظات الثورات بالتوازي مع صعود شبكات التواصل كان التغير الفارق في المسافات بين الطبقات الثقافية، التي كانت تعتمد العلاقة الرأسية بين النخبة وعامة المجتمع في حال تحكي التعالي والفوقية من لدن من يصنفون «نخبة»، في حين أن المنطق والصوابية تستدعي أن يكون المثقف ضمن المجتمع بتكويناته وطبقاته لا فوقه، ذلك أن من يملك المعرفة والوعي مسؤول عن تفكيك الجهل وإضافة الوعي لعموم المجتمع ومن دون تلك النظرة (إيجابية وتواضع المثقف مع عامة الطبقات الثقافية)، فلا قيمة للمثقف في بيئته عدا البهرج والاختيال، ما يعني أن التعاطي الأفقي بين النخبة وبقية الطيف مفقود لمصلحة التعاطي الرأسي الذي يصل إلى مرحلة الإمبريالية الثقافية التي حجبت كثيراً من الطبقات الصاعدة عن ضوء السوق الثقافي، فكانت الثورات العربية وشبكات التواصل فارقاً بين الزمانين، زمن النخبوية وزمن توزيع ومحاصصة الفرص، والطرح من خلال العطاء المعرفي لا من خلال الأسماء التي استبدت على الوعي والظهور. مع الثورات تراجعت النخبة إن في مقدمات الثورة والمشاركة تأثيرياً في صناعتها أو توجيهها، وإن في ضبط إيقاع دول الثورات بعد نجاحها في إسقاط النخب السياسية، لسبب ظاهر وهو غياب قيمة النخبة قبل الثورات، فكان من الطبيعي ألا يكون لهم تأثير ملهم حين الثورات. في «تويتر» مثلاً الجماهير الضاربة تلاحق أسماء لم تكن نخبوية ولا تمتلك رصيداً معرفياً ذا بال وبالملايين، وكثيراً ما يتساءل بعضهم كيف لا يُتابع ذاك المثقف الوازن، وبالمقابل الملايين تتابع أسماء متهالكة معرفياً ولا تمتلك إلا خطاب الدين الشكلاني، بظني أن الجماهير هرعت إلى من تواضع معها وتماهى مع إمكاناتها المعرفية، ولم يمارس عليها الفوقية بدعوى النخبوية. أبانت الثورات حجم غياب النخبة المثقفة ومدى قطيعتها لمجتمعاتها، كما أظهرت أنهم ليسوا في الزمان وإن كانوا في المكان، كما تمظهر مدى فصام كثير منهم عن الواقع، وذلك بتهديمهم لما كانوا ينادون به من القيم المدنية والأخلاقية، إذ انقلبوا على تنظيراتهم التي كانوا يتباكون وهم ينادون بها، وشهيد ذلك الانقلاب الذي قام به الجيش المصري ضد حكومة الإخوان، التي صعدت عتبات الحكم عبر الآلية الديموقراطية، وكيف تراجعت القيم المدنية حينما كان الآخر خصماً آيديولوجياً والكلام في ذلك مكرر. لقد ارتجت عروش الذهنية النخبوية حينما استبان لها أن المجتمع لا يعرفها ولا يعترف بها حال النازلات الكبرى والمفصلية، ومن صنع ذلك هو الطغيان النخبوي الذي تماهى في الاستبداد والتعالي الثقافي، وحان الوقت الذي يدرك فيه الجميع أن القيمة الحقيقية للإنسان مهما بلغ من الترقي المعرفي في مدى التأثير والإضافة لبقية المجموعة، وليست في هالة المكانة الأكاديمية أو المعرفية أو كمية الطرح والإنتاج المفرغ من القيمة التأثيرية على عموم الوعي. «الحصاد» مفهوم النخبة من المفاهيم المرتبكة في الوعي العربي لمرحلة تحول النخبوية إلى جزيرة لا علاقة لها ببقية الأرخبيل الاجتماعي، من حيث القطيعة المعرفية والتراتبية الرأسية، من يعتبرون نخبة في العالم المتمدن عظمتهم تكمن من حيث تماسهم والوعي الجمعي والهم العام. *كاتب سعودي. [email protected] abdlahneghemshy@