حين عاد الأسير المحرر مصطفى الحاج إلى وطنه بعد 24 عاماً من قتله مستوطناً في التلال الصخرية التي تشرف على قريته، وجد أن أحداثاً تاريخية لجيل كامل فاتته. كان الحاج واحداً من 26 فلسطينياً أفرجت عنهم إسرائيل في الساعات الأولى من صباح أول من أمس في بادرة لحسن النيات بقصد إعطاء دفعة لمحادثات السلام التي استؤنفت بوساطة أميركية في القدس. وعاد 11 من هؤلاء الرجال إلى ديارهم في الضفة الغربية، بينما عاد 15 آخرون إلى قطاع غزة. ومعظمهم أمضى عشرين عاماً وراء القضبان، وعليهم الآن التعايش مع شبابهم الذي ضاع، وعائلاتهم التي تغيرت، ومشهد جديد تغيرت ملامحه. وقال الحاج لوكالة «رويترز»: «أكيد عالم آخر... البيت الذي كنت أعيش فيه تغير... كنت الأخ الأصغر. الحمد لله رب العالمين، أولادهم الآن شباب أطول مني. البيوت تغيرت. الحارة تغيرت. لم أعرف الكثير من الناس. كان عمري 21 سنة عندما اعتقلت، هناك أناس توفوا، وهناك أجيال ولدت. أنا حاسس (أحس) أني في بيئة غريبة عني شوية (قليلاً)». ولقي الأسرى الذين تعتبرهم إسرائيل «إرهابيين»، استقبال الأبطال في الضفة من الحكومة الفلسطينية التي لم تكن موجودة بهذا الشكل عندما سجن غالبيتهم، وأيضاً من أقارب الذين لم يكن بوسع كثيرين منهم رؤية السجناء أثناء وجودهم في سجون إسرائيل. وقال فارح، شقيق الحاج، في منزل العائلة: «آلمني أن تزوجت ورزقت بأولاد بينما كان شقيقي بعيداً. سنزوجه ونعمل على أن يحصل على وظيفة». والمال ليس مصدر قلق فوري، إذ تدفع السلطة الفلسطينية للسجناء المفرج عنهم الذين أمضوا فترة طويلة في السجن في المتوسط 4000 شيكل (1120 دولاراً) شهرياً، وتعتبرهم جنوداً عائدين. ومثل هذه المزايا تغضب مواطنين إسرائيليين عاديين، بل إن وزراء في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يتساءلون إن كان هناك أي دولة أخرى تسمح بإفراج جماعي عن أشخاص مدانين بالقتل. وأدين الحاج عام 1989 بقتل ستيفن روسينفيلد (48 سنة) الذي انتقل إلى مستوطنة «آرييل» في الضفة من الولاياتالمتحدة. وقام الجيش الإسرائيلي بعدها بتفجير منزل الحاج عقاباً له، ولإثناء فلسطينيين آخرين عن شن هجمات. لكن أعيد بناء المنزل منذ فترة طويلة،، وزُيّن أخيراً بالأضواء لاستقبال الحاج. كانت في انتظار الحاج مشاهد جديدة، من بينها مستوطنات كانت في السابق مجرد عربات نوم كبيرة، وأصبحت الآن بلدات مترامية الأطراف. فعندما اعتقل الحاج، كان عدد المستوطنين في الضفة 69800 مستوطن، في حين تقول إذاعة الجيش الإسرائيلي أن عددهم الآن 367000 مستوطن. وتعتقد عائلة الحاج أنه وزملاؤه الفلسطينيون قدّموا اعترافات تحت وطأة الضغوط من إسرائيل. وقال شقيقه حاتم: «هل تعتقد أنه من دون ما فعله (الحاج) كانت ستوجد الآن سلطة فلسطينية؟ ... الآن لدينا حكومة، ويمكننا أن نتفاوض، ويمكن أن تصبح المقاومة بالكلمات والمفاوضات». وتحت وطأة الضغوط الأميركية، وافقت إسرائيل والسلطة على استئناف المفاوضات بعد توقف دام ثلاث سنوات، وساعد الإفراج عن السجناء في إقناع الرئيس محمود عباس بالعودة إلى المفاوضات. لكن ليس كل الفلسطينيين المفرج عنهم يؤيدون استئناف الحوار مع عدوهم اللدود، إذ يقول سمير مرتجى، وهو عضو بارز في حركة «حماس» في غزة والذي أفرج عنه بعد أن سجن عام 1993 في اتهامات بقتل أربعة فلسطينيين يشتبه في قيامهم بالتجسس لحساب إسرائيل: «نحن لا نؤيد المفاوضات». وكان مرتجى اعتقل بعد شهرين فقط من زواجه، واستقبله أقاربه في الجيب الساحلي باحتفال يشبه الفرح: سيارة زُينت بالورود وسارت به بين الأحياء وسط إطلاق نفير السيارات والموسيقى. وقال ل «رويترز» وهو يدعو إلى الإفراج عن جميع الفلسطينيين الآخرين من السجون الإسرائيلية: «لم أتوقع مثل هذا الترحيب الكبير من شعبي»، مضيفاً: «يجب ألا يسمح بأن يقضوا 20 عاماً من أعمارهم في السجن مثلما فعلت». وبعد أن قضى 12 عاماً من فترة عقوبته في السجن، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة، وسلمته إلى الفلسطينيين. وبعد عامين، اندلع قتال لفترة قصيرة أدى إلى انقسام الفلسطينيين بين «حماس» في غزة التي تتبنى المقاومة وبين حركة «فتح» التي يتزعمها عباس في الضفة التي تؤيد المفاوضات. ومعظم السجناء الذين أفرج عنهم أول من أمس من مؤيدي «فتح» الذين يحرصون على رؤية مستقبل أفضل. وقال مقداد عبد الصلاح (47 سنة) الذي حكم عليه بالسجن المؤبد لقتله إسرائيل تينينبوم عام 1993، وهو حارس فندق قرب تل أبيب: «فكري تغيّر. أريد السلام وأريد المضي قدماً وليس السير إلى الخلف». وكانت صوره تتدلى من النوافذ وأسطح المنازل في قرية برقة حيث تجمعت حشود وهو يتنقل في الشوارع ويلتقي بأصدقاء قدامى. وقال: «أراقوا دمنا وأرقنا دمهم... نحن شعب عانى كثيراً وكفى الدماء التي أريقت».