«في السودان يا راجح، العصابات تخطف الأطفال في سنّ السادسة. يدرّبونهم على القتل، ويحوّلون قلوبهم الضعيفة إلى صخور، بغية استخدامهم في معاركهم...». تنتقل ذبائح السودان إلى سطور سليم اللوزي في روايته «ذبائح ملوّنة» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2013)، فيحمِّل كلماته أصداء مجتمع منقسم وحروب مستشرية بين أهالي البلد الواحد. وبين شمال وجنوب، بين محليّين ومستعمرين، بين بيض وسود، تتحوّل الحرب إلى حروب، والجريمة إلى ذبائح. وعندما يصبح الطفل مقاتلاً جاهزاً، يرسلونه إلى أرض المعركة. يقفون كالغربان بعيداً. ينتظرون النصر المزيّف. والفتيات لديهنّ نصيبهنّ أيضاً. فتجّار البشر يشترونهنّ من أهلهنّ بذريعة أنهنّ سيعشن حياة الترف، بدلاً من أن يقبعن في قعر جهنّم». امرأتان وبطل واحد يختار اللوزي وجه امرأة غلافاً لروايته. وتتميّز هذه المرأة بوجهها نصف المختبئ خلف وشاح أحمر: لون الحب والحرب. كما أنّ نظراتها الهاربة تنظر بوَجَل إلى البعيد. فهل هي تنظر إلى المستقبل، مستقبلها ومستقبل السودان، وترتعب لما تراه؟ أم هي تبحث عن مخرج لها، عن مكان تلجأ إليه بعيداً من جحيم الجثث الذي تعيشه؟ وما يثير الفضول في وجه هذه المرأة هو عدم قدرة القارئ على تمييز لون بشرتها. فهل هي امرأة افريقيّة سودانيّة أم هي امرأة سمراء مغربيّة؟ ويصبح كلا الاحتمالين وارداً بعد قراءة الرواية وإدراك تأرجح بطلها بين قصّتي حب إحداهما تكون مع فتاة سودانيّة اسمها حبّابة، والأخرى مع فتاة مغربيّة هي سلافة جلنار ابنة بلاد البطل. تشكّل قصّتا الحبّ هاتان ذريعة السرد ومفتاح الدخول إلى المجتمع السوداني. فراجح وهو بطل اللوزي، رجل مغربي يعيش في نيويورك ويقرأ هذه القصّة من مذكّراته. ولا يظهر هذا الرجل النيويوركي في الرواية سوى في بدايتها ليفتتح السرد ويمهّدَ لمرحلة التذكّر، وفي آخر الرواية ليختم ب flash back أيّ عمليّة العودة إلى الوراء. فيكون اللوزي بذلك، ومنذ بداية روايته فرّق بين زمنين، زمن الحاضر وفيه تجرى عمليّة قراءة المذكّرات، وزمن الأحداث الماضية المتذكَّرة. وكذلك فرّق بين راجح الذي يقرأ مذكّراته في نيويورك، وراجح بطل المذكّرات والقصّة الدائرة في السودان. أمّا راجح البطل الشاب، فيكون في فندق باريسيّ عندما يلتقي حبّابة، الفتاة السودانيّة التي توزّع الجرائد في الفندق. وبعد أيّام عدّة يُمضيها العاشقان في دوّامة العشق والملذّات، تختفي حبّابة. وبعد البحث والسؤال، يجد راجح أنّ حبّابة امرأة بيعت لأمير وهي في سنّ السادسة عشرة، حالها في ذلك حال الكثيرات غيرها من الفتيات السودانيّات. وبعد إبرام الصفقة وانتهاء الأمير من حاجته من حبّابة، يعود إلى بلاده تاركاً إيّاها وحدها في ذلك الفندق الباريسي المتواضع. ينقل اللوزي من خلال قصّة حبّابة مشكلة الإتجار بالرقيق وهو أمر شائع في السودان في ظلّ ظروف الحرب وتوسّع نفوذ العصابات. ويكتشف القارئ جحيم السودان بعيني راجح، عندما يقرّر هذا الأخير البحث عن حبّابة. فيسافر إلى السودان حيث يحاول البدء بعمليّة البحث عن فتاته الفاتنة، ولكنّه عوضاً عن ذلك يلتقي سلافة جلنار امرأة مغربيّة كانت صديقته في صغره على مقاعد الدراسة. وسلافة ممرّضة في السودان تعمل في مستشفى وتساعد الجرحى والمصابين. فتعرض سلافة على راجح العمل معها في بعثة أطبّاء بلا حدود، وتعرض عليه مساعدته لإيجاد ضالّته. وبين مهمّة البحث عن حبّابة ومهمّة مساعدة جرحى القتال، يقع راجح أسير حبٍّ جديد وهو حب سلافة. فأيّ حبّ منهما يختار؟ وفي مقابل قصّتي الحبّ هاتين، يشعر القارئ باختناقٍ على مدار الرواية، اختناق ناتج من الواقع المرير الذي ينقله الكاتب والصحافي والمدوِّن سليم اللوزي. وعلى رغم اختيار الكاتب للسودان نتيجةً لتعمّقه بأخباره وأوضاعه وتتبّعه لآخر مستجدّاته نظراً لما يقتضيه عمله الصحافي، نجد الواقع السوداني الذي يصفه منطبقاً على معظم البلدان العربيّة وغيرها من البلدان المستضعفة. فالحقيقة واحدة: مستَعمِر قوي مسيطر، يُحكم قبضته على بلد من البلدان التي نسمّيها البلدان النامية للتخفيف من فظاظة تعبير آخر؛ وبلد ضعيف ولكن غنيّ بالموارد والثروات الطبيعيّة والتنوّع الثقافي أو العرقي أو الديني: تنوّع يعجز عن السيطرة عليه أو الاستفادة منه، فيستغلّه البلد القوي ويوظّفه حطباً لنيران الحرب الأهليّة. فتنمو شخصيّة البطل ومعها معرفة القارئ بالواقع السوداني مع تقدّم السرد. ويظهر سمير وهو طبيب صديق لسلافة وراجح مدركاً حقائق الأمور ومنتفضاً على الصلاحيّات التي تختلسها البلدان الغربيّة من بلده. وكردٍّ على هذا الواقع الذي يدركه والذي لا يستطيع إزاءه شيئاً، يقرّر تفجير وزيرة الخارجيّة الأميركيّة عند زيارتها المستشفى. ونلاحظ أنّ اللوزي ينقل ردّ فعل رجل سودانيّ غاضب وحاقد على البلدان الكبيرة التي تقسّم بلده وتمدّه بالسلاح، وتحرّض الفرق المتناحرة بعضها على بعض. وهذا التفجير هو العمل الوحيد الذي يستطيع سمير القيام به للتعبير عن نفسه. فسمير كأي رجل متعلّم طموح يحبّ بلده ويغار على مصالحه، يجد نفسه عاجزاً عن إيقاف القتال أو ردع المتعصّبين أو إقناع الشباب الصاعد بضرورة بناء السودان وليس تهديمه. ينقل اللوزي في روايته «ذبائح ملوّنة»، صورة السودان: مجتمع يعجّ بالمآسي، يتلوّن بالدماء والجروح، وتتحكّم فيه عصابات مموّلة ومسلّحة من الدول الغربية الفاتحة أشداقها لابتلاع ثروات البلد المنقسم. ففي مقابل جماليّة الصوفيّة، والتقاليد السودانيّة العريقة، في مقابل الشباب الطامح والآمِل بالتغيير والتجديد، لا توجد بين السطور سوى قطرات دماء النساء والرجال والأطفال الذين سقطوا ضحايا الذبائح: «ذبائح ملوّنة».