يحمل عنوان الرواية الأخيرة ليوسف زيدان ( دار «الشروق» - القاهرة) نوعاً من الالتباس، فهل هي كلمة «مُحال» التي تعني الاستحالة، أم «مَحالّ» جمع التكسير لكلمة «محلّ»، أي مكان؟ يبدو أن زيدان ترك الكلمة على هذا الرسم (محال) من دون تشكيل، وكأنه يسعى لتهيئة القارئ إلى نوع من الاجتهاد في التأويل، والزيادة في التركيز لمعرفة المعنى الذي أخفاه «الشاعر» ولن يفصح عنه غيرُ بناء الرواية ككل. لكن الرواية لم تحمل في مضمونها ما يستدعي العنوانَ كعتبة للنص، فهي في مجملها بسيطة وذات أفق واحد، ولا تستحق إجهاد الذهن بحثاً عن خفايا أو تأويلات، لأنها في ثلاثة أرباعها الأولى تشتمل على قصة حب بين شاب سوداني من أم مصرية وفتاة من الإسكندرية، وفي ربعها الأخير على رحلة سفر هذا الشاب إلى بلاد الخليج بحثاً عن فرصة عمل، حتى التحاقه بالعمل مصوراً في قناة «الجزيرة»، ثم القبض عليه مع دخول الأميركان إلى أفغانستان، لتنتهي الرواية بأنه سيقضي سبع سنوات من عمره في سجن غوانتانامو، وهذا ما يذكرنا بقصة السوداني سامي الحاج، المذيع في قناة «الجزيرة»، الذي تم احتجازه من 2001 حتى 2008 في هذا السجن الرهيب من دون تهمة محددة. ثم نجد أنفسنا في النهاية أمام رواية أشبه بأفلام السينما المصرية عن حرب 1973، حيث قصة الحب التي تم إقحام عدد من المشاهد الحربية عليها. في هذه الرواية لا نستطيع القول بأن يوسف زيدان قدَّم جديداً لجهة مستواه الفني، فأعماله تقوم في مجملها على بحث مسبق عن نقطة خلافية يمكنها جذب القارئ، سواء بالاتفاق أو الاختلاف، وهو ما حدث في روايته «عزازيل» حيث قصة الراهب المنشق عن الكنيسة المصرية في عصرها الأول. وبعيداً مما يمكن وصفه بالمغالطات والاختصارات التاريخية المخلة بالحقيقة، إلا أن الحادثة كانت ومازالت تمثل حرجاً في تاريخ الأقباط، فهي انتهت بمجمع خلقيدونية الذي أفقد الكنيسة المصرية مكانتها وعزل رئيسها من منصبه. وتكرر الأمر في روايته الثانية «النبطي» الذي أهَّل نفسه للنبوة، والذي تمتع بعلم ومعرفة كافية بكتب الأمم السابقة، لكنه وجماعته لا يقدمون شيئاً في مواجهة النبي المكي، وينحصر دورهم كمساعدين للعرب -بحكم معرفتهم بطرق التجارة مع المصريين- على دخول مصر. هروب لا ... مواجهة وبغض النظر عن أن المواجهة الصريحة التي اتخذها زيدان مع الأقباط في «عزازيل»، فإنه في عمله الثاني هرب من المواجهة مع الجماعات والأنظمة الإسلامية في شكلها السلفي. المدهش في «محال» أن زيدان استخدم اللغة نفسها التي استخدمها في روايتيه السابقتين، حيث المفردات والتراكيب البلاغية القديمة، وفي حين كان لهذه اللغة ما يبررها في «عزازيل» و «النبطي»، حيث رمزية القدم الزمني الذي تدور فيه أحداثهما، إلا أنها ليست مبررة في عمل تدور أحداثه مع مطلع القرن الحادي والعشرين. ولم نعرف الهدف من كل هذا الشتات والمقدمات التي اشتمل عليها النص، فالشاب من السودان والفتاة من الإسكندرية، ومقر عمله في أسوان، وقصة حبه تستغرق ما يقارب مئتي صفحة، تنتهي بأن يتزوج فتاته رجل استخبارات ليبي. لم نعرف ما دلالة ذلك؟ وما مدى أهميته للنص؟ وكعادة كل الحكايات البسيطة، يجيء اليهود والأميركان دائماً كرمز للشر، ويجيء المتصوف أو العارف بالله على نحو غرائبي محبب إلى النفس. لكن زيدان، الدارس للمتصوفة وغرائب أحوالهم، يقدم لنا الشيخ نقطة (نقطة الباء وفق تعريفه لنفسه) من دون توظيف مفيد في بنية العمل، حتى أننا نستطيع أن نغفله من دون أن نشعر بارتباك في البنية، مثلما نستطيع أن نغفل مئات الفقرات وعشرات الصفحات من دون قراءة، فلن نشعر بفارق مثلاً، لو استبدلنا رجل الاستخبارات الليبي بأي مقاول مصري، وجعلنا موطن بطل النص جنوب مصر بدلاً من شمال السودان، كما يمكننا ببساطة غض البصر عن شخصيات أمولة وسهيل وحمدون، فحضورهم غير مؤثر، سواء سلباً أو أ يجاباً. والمدهش أيضاً أن تأتي شخصية مثل أسامة بن لادن ضمن مفردات مشهد لا معنى له، فهو يقيم بين الناس بحراسة عدد من رجاله المسلحين، وكل مهمته أن يقدم الخراف هبة للفقراء، وهو ما يتناقض مع الواقع التاريخي، فابن لادن أعلن نفسه عام 1996 أميراً للمؤمنين، وبايعته الجماعات الإسلامية في العالم العربي، وكان ذلك يستحق الوقوف أمامه فنياً بشكل مطول، فضلاً عن الدراما في كونه مطلوباً من أنظمة عربية وغربية، فكيف يمكن أن يكون حضوره فاتراً على هذا النحو كما لو أنه راعي غنم أو عابر سبيل. معمار كلاسيكي بدت الرواية في معمارها الفني أشبه بخط ثابت طويل، حتى أنها من فرط كلاسيكيتها تذكرنا بروايات جودة السحار ومحمد عبد الحليم عبد الله، في حين تذكرنا لغتها بفصاحة «العبرات» و «النظرات» للمنفلوطي، وتصل في بعض الأحيان من فرط ثقل تعمّدها إلى حدود مقامات بديع الزمان. ربما كان المفيد بها هو روح السخرية، التي لو جاءت بلغة عصرية لاتّضحت معالمها، لكنها في أجواء هذا النص بدت كما لو أن أزهرياً يطلق نكتة عن الفرنجة والفرنسيس. ربما قصد زيدان أن تكون «محال»ه بالفتح (مَحالّ)، نظراً لكثرة الأماكن التي ارتحل إليها البطل، بدءاً من السودان مروراً بأسوانوالإسكندرية والإمارات العربية وطاجيكستان وباكستان وأفغانستان، وصولاً إلى غوانتانامو. وبغض النظر عن الإسكندرية وبعض المعلومات المتوافرة عن الآثار الفرعونية في الأقصر، فإن معلومات المؤلف عن كل هذه الأماكن تبدو سماعية وضئيلة، مما جعل ترحاله فيها يبدو غريباً وغير موظف فنياً. وفي ظل سياق سرده الكلاسيكي، لا تبدو ضرورة لذكر هذه الأسماء من غير تأكيد المنحى الذي جسده العنوان، وهو المَحالّ كأماكن للترحال، رغم أن النص سار فنياً في اتجاه آخر، فمن المحال أن تكون مشكلة النوبة وما حدث من تهجير لأهلها مثيرة للاتفاق أو الاختلاف كما حدث مع «عزازيل»، ومن المحال أن يستمتع المصريون بفيلم «الرصاصة لا تزال في جيبي» مرة أخرى، ولا أن يتم استخدام حكاية سامي الحاج من دون إهداء أو إشارة إليه في عمل فني تم استلهامه من حكايته التي روجت لها قناة «الجزيرة». ومن المحال أن يتعذب القارئ بقصة حب لأكثر من مئتي صفحة كي يفاجأ بأن أحداث الرواية موجودة في الخمسين صفحة الباقية منها.