لو لم ينتحر الناقد الفني والصحافي نصري عكاوي لما علم برحيله إلا قلة قليلة من أقارب وبضعة اصدقاء. انتحر هذا الكاتب الذي ينتمي الى العصرين، الذهبي والفضي، للصحافة الفنية، في السبعين من عمره، لا خيبة من عشق ولا في سبيل قضية ولا اكتئاباً أو جنوناً... بل عوزاً وفقراً، فقراً مدقعاً. تبّاً لهذا الزمن اللبناني الذي ما برح فيه أناس يجوعون ويمرضون ولا يجدون من يمدّ لهم يداً. ولو مدّ نصري يده لكان وجد حتماً من ينقذه ولو شظفاً، لكنه صاحب عزة نفس نادرة، ما كانت لتسمح له أن يستعين بأحد. هذا الصحافي الفني العريق الذي تكاد الأجيال الجديدة تجهله، لم تسأل عنه نقابة الصحافة ولا نقابة المحررين، ولا التفتت إليه شركة الضمان ولا المؤسسات الخيرية... مات نكرة، أو غُفلاً كما يُقال، والصحف التي أعلنت خبر انتحاره لم تنشر له صورة. الصورة الوحيدة التي نشرت هي للمكان الذي سقط فيه، أسفل البناية التي يسكنها في أحد احياء ضاحية بيروتالشرقية، بعدما رمى بنفسه من الطبقة الثامنة. كان نصري من النقاد الصحافيين الفنيين اللامعين منذ منتصف الستينات والسبعينات من القرن العشرين، كتب أجمل المقالات والريبورتجات والتحقيقات، وغطى أهم الأعمال المسرحية والفنية والسينمائية، ورافق كبار الفنانين اللبنانيين والعرب الذين كانوا يقيمون فترات في لبنان. عمل في جريدة «لسان الحال» ايام عزها وفي مجلة «الصياد» عندما ترأس تحريرها الصحافي رفيق خوري وشهد فيها مع المصور ورسام الكاريكاتور ستافرو جبرا مرحلة الانتقال من الأسود والأبيض الى الألوان. وعندما عصفت حرب العام 1975 راح يتنقل من صحيفة الى مجلة الى أن استقر في مجلة «الحوادث» ناقداً كعادته وكاتب تحقيقات جميلة ومثيرة. وفي إحدى فتراته كتب قصصاً وسلاسل من روايات لم ينشرها في كتب. وكان من الصحافيين الذين يملكون «نكهة» خاصة في أسلوبهم وطريقة ابتداعهم للأحداث والوقائع. رحل نصري عكاوي بلا صورة هو الذي كانت الصورة رفيقة مقالاته والتحقيقات، وكان في أحيان كثيرة يلتقطها هو بنفسه. وفي ليالي بيروت، المسرح والغناء والسهرات الفنية، كان واحداً من الحاضرين، الدائمي الحضور، بوجهه المشرق، وابتسامته ونظراته التي كان يطلقها من وراء نظارتيه العريضتين. ترك نصري عكاوي كثيراً من المقالات والحوارات مع كبار الفنانين والمسرحيين الطليعيين والمخضرمين والشعراء والكتاب. ولعل أرشيفه هو من أهم الأرشيفات الفنية والثقافية، والخوف من ألاّ يضيع ويتلف في مرحلة لم تعد مثل هذه الوثائق تعني إلا القلة من المثقفين والصحافيين.