أقرأ لأستاذنا الدكتور رضوان السيد منذ أواسط التسعينات من القرن الماضي، ولذلك فقد تابعت تكوّن مشروعه وتطوّراته. في هذا العام صدرت للرجل ثلاثة كتب مهمّة، هي: «العرب والإيرانيون»، و»أزمنة التغيير: الدّين والدّولة والإسلام السياسي»، و»التّراث العربي في الحاضر». بعد صدور هذه الكتب الثلاثة بات مشروع السيّد إلى حدّ ما مكتمل الأركان والمعالم. اتّبع منهجًا صارمًا ورؤية واضحة، تجلت في عروضه الثلاثة: العرْض الكاشف الذي يحدّد المفاهيم الصحيحة، والعرْض النّاقد الذي يكشف الأقنعة الأيديولوجية، والعرْض المحرّر الذي يقدّم البدائل بما يتلاءم مع عصر العلم ولا يتناقض مع المقاصد الحقيقية للدين. يعتبر رضوان السيّد نفسه من الجيل الخامس الذي انشغل في إعادة كتابة التاريخ العربي. في كتبه السابقة «الأمّة والجماعة والسلطة» (1984) و «مفاهيم الجماعات في الإسلام» (1985) و «الجماعة والمجتمع والدولة» (1997) و «سياسيّات الإسلام المعاصر» (1997) و «الصّراع على الإسلام» (2005) درس المفاهيم الأساسية في الفكر السياسي الإسلامي كالوحدة والجماعة، والأمّة والسّلطة، والمركز والأطراف، كما عمل على تفكيك المنظومات الفكريّة السائدة والأيديولوجيّات الكامنة وراء التصرّفات والأعمال السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة. وفرّق في شكل واضح بين الإسلام باعتباره ديناً لسائر الجماعات داخل الأمة، وبين الأيديولوجيا باعتبارها مجموعة من الأفكار والتصوّرات والخطابات، تعتنقها جماعة ما، لشرعنة وجودها في السلطة أو الإقناع بأحقيّتها في الوصول إليها. كما تطرّق إلى حوار الأديان بين الإسلام والمسيحيّة، وثقافة الاستشراق، وعلاقتنا بالغرب. حاول السيّد أيضاً في ثنايا كتبه ومقالاته أن يتناول أطروحات الكثيرين ممن خاضوا تجربة إعادة كتابة التراث، فأبدى ملاحظاته على مشاريع كلّ من الجابري وأركون والعروي ونصر حامد أبو زيد وحسن حنفي وطرابيشي وطيّب تيزيني وطه عبد الرحمن... في محاولة منه لإظهار مدى التمايز المنهجي والفكري بين مشروعه ومشاريعهم. لا يخفي رضوان السيّد، الذي تخرج في الأزهر، قلقه على الإسلام، خصوصًا بعد الأحداث العظام التي تعصف بالعالم العربي، لا سيّما في سورية والعراق واليمن ولبنان ومصر. يعتقد أنّ الخطر الأكبر سببه المسلمون أنفسهم، وبالتحديد جماعات الإسلام السياسي بشقّيها الشيعي والسني، إلى جانب التنظيمات الجهاديّة. وكي لا يقع السيّد بما انتقد به الآخرين من تصويب نقدهم للأرثوذكسية، أو الأصولية السنيّة، قام إلى جانب مئات المقالات التي كتبها في نقد السياسات الإيرانية وترجمته كتاب «بردة النبي الدين والسياسة في إيران»، بإصدار كتاب «العرب والإيرانيون» (2014) للحديث بالتفصيل عن الأبعاد الاستراتيجية لسياسات طهران في المنطقة، وكيفية استخدام القوة والدين والمذهب والثقافة، للتحشيد وفرض الوقائع على الأرض. فما يجري اليوم من صراع مدمّر للدّين أولاً، وللبنى الاجتماعية العربية والإسلامية ثانياً، هو نتاج أطروحات الجماعات الأصولية السنية والشيعية التي لا تتوافق مع روح ومقاصد ما جاء به الدين الحنيف. في كتابه «أزمنة التغيير»، يتحدّث السيد بعد أن تجاوز الستين من العمر عن ثالث أنواع عروضه وهو العرض المحرّر، محاولاً تقديم بدائل جديدة للأطروحات السّائدة. يصف السيّد كتابه بأنه سجاليّ ونضاليّ، فهو من جهة يستكمل مساجلة جماعات الإسلام السياسي في الأصول والدّوافع والتيّارات وتحويلاتهم للمفاهيم الدينية على مدار أكثر من ستة عقود؛ وهو من جهة أخرى نضاليّ لأن همّه طرح بدائل لإخراج الدرس الديني والممارسة الدينية من الأفق المسدود للعلائق بين الدين والجماعة، وبين الدين والدولة، وبين الإسلام والعالم. فالكتاب يقدّم اقتراحات وتصوّرات جديدة للخروج من مأزق الإسلام والسياسي، وآفاقه المسدودة، بهدف الإصلاح السياسي وصون الدين في أزمنة التغيير. يرى السيد أن ثمّة تحوُّلاً خطيرًا طرأ على الواقع العربي والإسلامي إذ وصل العنف إلى ذروته في موجته الثالثة. فلئن كان الصراع - بعد واقعة أحداث 11 أيلول (سبتمبر) - هدفه الأساس هو القبض على روح الدين من جانب الجهاديين، أو الأنظمة العسكرية الديكتاتورية، أو النظام العالمي الجديد، فقد بات الصراع اليوم يأخذ منحى أكثر خطورة. أضحت الحروب في قلب الإسلام ذاته، ليس بين المعتدلين والمتطرفين، كما زعم الأميركيون، بل بين الذين يريدون أن يبقى دينهم على سويّته حاضنًا للسكينة الاجتماعية والثقافية والعيش مع العالم، وبين أولئك الذين يعملون على تقسيم المجتمعات والدول، وتدمير أعراف العيش، ومصارعة العالم باسم الإسلام. يقسّم المفكر اللبناني كتابه إلى ثلاثة أبواب. في الأول منه، يتحدّث عن الإسلام ومشكلات الدولة الحديثة، وعلاقة الدين بالدنيا والدولة والمجتمع. فالإسلام برأي الكاتب دين يتضمن بالنسبة إلى الفرد المؤمن عقائد وعبادات وأخلاقاً تشكل ثوابت في حياة الفرد، ومشتركات بين الجماعات المؤمنة، ورؤية للعيش في العالم. بينما المفهوم من الدولة أنها هيئة تختص بإدارة الشأن العام لجماعة بشريّة معينة. وهكذا فإن الشأن السياسي لا يتوحد مع الشأن الديني، بخاصة في الأزمنة المعاصرة، لاختلاف الموضوع، والوظيفة، فضلاً عن اختلاف المنطلقات والنتائج. في خاتمة هذا الباب يتناول في شكل سريع بعض أطروحات الإصلاح منذ محمد عبده والكواكبي حتى الآن، ويرى أن سؤال الإصلاح كبير وإشكاليّ. وبرأيه فإن ما ستؤول إليه حركات التغيير العربية هو الذي سيحدِّد إلى أيّ مدى تحقّق الإصلاح. في البابين الثاني والثالث، يتمحور همّ الكاتب على حفظ الدين من طريق إخراجه من بطن الدولة، وكسر القيود والأغلال التي طوّق بها الإسلاميون الحزبيون والعنيفون الدين والمؤسسات والمجتمعات والدول. فيتحدّث بالتفصيل عن مصائر الدولة والدين في زمن الثورات، ويحذر من خطر ولاية كلٍّ من الفقيه والمرشد. يؤكد السيّد أن لا مستقبل للدولة الدينية في دول العالم العربي. فحركات التغيير لم يطلقها الجهاديّون، ولا الإخوان، ولا السلفيّون، بل أطلقتها الأجيال الجديدة من الشّباب. وإن لم تكفِ موجة أو موجتان في تصحيح مسار الدولة وإدارة الشأن العام فقد تكون هناك موجة ثالثة ورابعة. بيد أن الخوف الحقيقي كما يرى بات على الإسلام من الإسلاميين أنفسهم بعد وصول موجات العنف اليوم إلى ذروتها. ولكي نتمكن من صون الدين في أزمنة التغيير والعنف، فإنّ ثمّة مهمّات أربعاً تقع على عاتقنا: أولها: قيام أنظمة الحكم الصالح التي تعمل على تحقيق مصالح الناس فينصرفون عن أوهام دولة العدالة الكاملة؛ ثانياً: تحرير المؤسّسة الدينيّة من قبضة الأنظمة واختراقات الجماعات المتطرفة وأحزاب الإسلام السياسي لكي تتمكن من أداء مهماتها في صون الدين من الانشقاقات؛ ثالثاً: أن يتكوّن تيّار نهضوي في قلب الإسلام، تكون مهمّته نقد تحويلات المفاهيم، ووضع المناهج التعليميّة الدينيّة، والإسهام في إنتاج خطاب جديد للخطباء والأئمة... وبذلك تعود للدين ومؤسساته الوظائف والمهمات الضرورية لوحدته وسكينته. أما المهمّة الرابعة فتتمثّل بالعودة إلى الانخراط الجدّي والفاعل في حوار الحضارات والثقافات، وتقديم الإسلام ديناً تعارفياً ينفتح على الآخرين ويجادلهم بالتي هي أحسن.