بصرف النظر عن الجدل بين الباحثين حول تشبيه هذه المرحلة التي تمر بها مناطق المشرق وبعض الدول العربية بمرحلة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، من حيث التحولات التاريخية في إعادة رسم الدول والخرائط وعلاقات الدولة بالدين، أو العكس، وحركات التغيير سواء كانت إصلاحية أو إحيائية أو وطنية... إلخ، إلا أن المؤكد اعتبار المسار التاريخي الحالي مساراً دقيقاً مصيرياً، بل بنيوياً لما سيأتي بعد، خصوصاً أنه مسار ثقيل بقواه واندفاعاته الخطرة، فهو كالسيل الذي لا يمكن دفعه (إذا استعرنا كلمات خير الدين التونسي وهو يصف الغرب هكذا). وإذا كان هذا المسار يحمل في طياته إمكاناتٍ تاريخيةً مفتوحة تعتمد على دقة المبادرات والقوى المنخرطة بالتغيير، إلا أن الأمر المهم هو كيفية رسم هذا المسار وتحديده من جهة، وضبط معالمه والتحولات الجارية فيه، وخصوصاً في مسائله الحاسمة في ما يتعلق بالإسلام السياسي والدين والدولة، من جهة ثانية. هذا ما قام بدرسه رضوان السيد في كتابه الصادر حديثاً «أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي» (هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة- 2014). قبل البدء بقراءة الكتاب كان هناك سؤال مستبطنٌ لدي يتعلق بإشكال الصراع «على» الإسلام والصراع «في» الإسلام، فالفترة التي تفصل بين صدور كتاب «الصراع على الإسلام» لرضوان السيد ( دار الكتاب العربي- 2004) وبين هذا الكتاب تقترب من عقد. هل إن الأحداث الكثيرة في هذه الفترة استدعت تغيراً في أرض الصراع؟ هذا ما حاول الكتاب ضبطه، وهو ملتقط بالفعل أنّ صورة الصراع قد غدت، خصوصاً مع حدث الربيع، صراعاً «داخل» أرض الإسلام: «وأول مظاهر التغيير وأكثرها دلالة أنّ الصراع على الإسلام في الزمن المنقضي كان دائراً بين أقطاب الهيمنة والحركات الأصولية، أما اليوم فإنه صراع داخلي بحت أو شبه بحت» (ص 86). وفي ص 221، يعود الكتاب ليؤكد أنه صراع مزدوج، جزؤه الرئيسي يدور داخل الإسلام ومجتمعات المسلمين ودولهم. السيد يؤكد كذلك أنه بعد صدور كتاب جيل كيبيل «الفتنة: حروب في قلب الإسلام» ردّ عليه تحت وطأة الحرب على الإرهاب الإسلامي آنذاك، ومن ثم فيقول: «لكنني أرى الآن ومنذ عام 2005 أنه كان محقاً، على رغم بعض وجوه المبالغة في مقاربته تلك»). وهكذا، فإنه صراع يتخلله، بل يتمحور في مركزه الإسلاميون، إضافة إلى القوى الدولية، تحت دعوى محاربة الإرهاب، وهو صراع بين الجهاديين، بين الجهاديات السنية والجهاديات الشيعية... إلخ. من هنا، فإنّ ضبط مسار أزمنة التغيير لا يعني بالطبع الاكتفاء بالتحليل والوصف، فالكتاب منذ بدايته يعلن أنه مهموم صراحةً بمساجلة الإسلام السياسي، وفي الوقت ذاته بتقديم بدائل لحلحلة الدرس الديني والممارسة الدينية من الانسداد في العلائق بين الدين والجماعة، وبين الدين والدولة وبين الإسلام والعالم، وبالتالي فقد ذهب الكتاب بعيداً في تفكيك هذه العلائق إلى بدايات تشكّل الحركات الإحيائية والإصلاحية والوطنية والجماعات والجمعيات (مثلاً، الجمعية الشرعية سنة 1901، وجمعية أنصار السنة المحمدية سنة 1923، وجمعية الشبان المسلمين 1927، وجمعية الإخوان المسلمين سنة 1928، والتي سماها حسن البنا ب «الجماعة». انظر ص142- 143)، راصداً في الوقت ذاته آليات الانفكاك بينها والصراعات على المرجعية ومسارات كل منها ومكانة الدولة في ذلك، أو إذا شئنا الصراع على الدولة في ما بينها. هكذا إذاً، فإنّ الأسَّ الجوهري للكتاب هو الدين والدولة، وما بينهما الإسلام السياسي ممثلاً بحركاته السياسية والجهادية... إلخ. من هنا يبدأ بتحليل الإشكالية الكبرى التي تتعلق ب «الإسلام ومشكلات الدولة الحديثة»، ومن ثم «الدين والدنيا، والدين والدولة في الإسلام المعاصر»، ليبحث في «الدين والمجتمع والدولة في العلاقات والمرجعيات والمصائر»، ومن ثم لينتقل في إسهاب تاريخي نقدي في فصل درس «تحولات الفكر الإسلامي خلال قرن، أو هل فشل الإصلاح؟»، وهو الفصل الذي يقعّد تاريخياً للتطورات داخل الفكر الإسلامي ومسألة الهجوم على التقليد والمذاهب الفقهية (إنه حتى يعود بهذا إلى ابن تيمية) والتطورات داخل الفكر النهضوي ومدارس الإصلاح... إلخ. وإذا كانت تلك الفصول ركزت في بابها الأول على بحث إشكالات «الإسلام والدولة في الأزمنة الحديثة»، فإنّ الباب الثاني بفصوله الستة يبحث في «الصراع مع الدولة الوطنية... ومع العالم». السيد، بالأصل، لا يخاف على الدولة بمقدار خوفه على الدين (وهذا ما يمكن أنْ نلحظه في ثنايا الكتاب عامةً)، وأنّ السبب في الخوف على الدين هو في تغير وظائف الدولة والدين بعد أنْ تم اختطاف الدين من الإسلاميين ومحاولاتهم الدؤوبة في إدخاله «بطن الدولة»، أو إذا استخدمنا تعبير السيد: «إنّ معدة الدولة قاسية، ولا يمكن ولا يحسن تعريض الإسلام لخطر المضغ والتفتيت» (ص89- 90). الكتاب يحلل مثل هذه الإشكاليات عند المبكرين،مثل حسن البنا وعبد القادر عودة (الذي يرى أنّ الدولة هي الدين والدين هو الدولة)، وكذا «الفصام النكد» بين الدين والدولة عند سيد قطب (ص 113)... إلخ. أما الفصل المثير في هذا الباب، فهو «ولاية الفقيه وولاية المرشد: الإسلام السياسي وشرعية الدولة الوطنية» الذي يدرس تحولات ورؤى الإسلاميين عند كل من إحيائيي الشيعة والسنة ومدى التوافق والفروق بينهم. إنه بنحو ما، درسٌ مقارنٌ لهذا الإحياء، والذي يستبطن عموماً مبدأ الدولة الدينية، إلا أنّ الإحياء عند السنة حينما تبلورت معالمه انتهى عندهم إلى «تنظيم ومرشد، بينما انتهت قيادته لدى الشيعة إلى ولي فقيه». السيد هنا (ص 129) يلفت إلى التغييرات عند هذين الطرفين في مواجهة عصر الحداثة: الدولة في التفكير السني القديم مصلحية تدبيرية اجتهادية، وليست من التعبديات أو الاعتقاديات. بينما عند الشيعة هي من أصول الاعتقاد، لكنّ جزأها السياسي مهدويٌّ مؤجل، أما تحقق هذه الدولة من دون المهدي فهو افتئات على حقه وعلى الدين. لكن الذي حدث هو أنّ الدولة الدينية عند كل من الفريقين «صارت جزءاً من الاعتقاد...». وإذا كانت الحال كذلك، فإنّ الباب الثالث ذهب ليدرس في فصوله الأربعة قضايا التغيير والنهوض ومشكلاتها. ما تهم الإشارة إليه هنا ونحن في غمار الجهاديات المتصارعة باسم الإسلام، أنّ الجهاد السني، وهو سليل خطابات وممارسات جماعات الإسلام السياسي، يُقدّم صورة فاقعة التشرذم في صراعه مع داخله ومع ذاته من جهة (هنا من المستحيل أنْ يشكل الإسلام السياسي فرصة للخروج من هذه الجهاديات طالما أنّه صدامي، وطالما أنّ ذلك «انشقاق في الأصل». انظر ص214)، وفي تعريض الدين مرة أخرى لأنْ يغدو ساحة صراع للقوى الدولية من خارجه من جهة ثانية. بالطبع، هذا لا ينفي أنّ الجهاد الشيعي هو الآخر لا يقوم بهذه المهمات، فإذا كانت المؤسسة الدينية الشيعية قد ضبطت المذهب الشيعي من خلال الاستيلاء على الدولة الإيرانية (ص176)، فجنّبت المذهب «مبدئياً» أخطار الانفلاتات الجهادية، إلا أنها أيضاً لم تقلَّ في تسييس الدين وتسخيره لأهداف ومصالح الدولة الإيرانية. من هنا عودة الجهاد الشيعي بهذه القوة خدمة للدولة الإيرانية. الأمر نفسه، يمكن قوله إن الإسلام السياسي الشيعي لا يمكن أنْ يشكل مخرجاً من تلك المآزق لأسباب كثيرة، ليس أقلها أنه «وقع رأسه في قبضة الدولة الإيرانية التي تسخره لأهدافها الاستراتيجية الواقعية والوهمية...» (ص231). هكذا، فإن أحد هموم الكتاب الرئيسة هو إخراج الدين من «معدة الدولة» ومن ربقة التجاذبات السياسية ومن أروقة فوضى حركات الإسلام السياسي، سنية كانت أم شيعية. إنني أميل إلى أنّ هذه الحركات هي فاشلة بالعمق، سواء أيديولوجياً أو حتى على صعيد السلوك والممارسة لقد بقي أوليفييه روا على رأيه بشأن فشل الإسلام السياسي، إلا أنه لاحقاً، مع وقبل صعود مرسي، راهن على أن الإسلام السياسي سيزداد تسييساً وسيُجبَر على الانخراط بالدولة وسيأخذ شكلاً مدنياً. هذه يوتوبيا من روا؛ وقد أثبتت الأحداث اللاحقة فشلها، وما امتدادهم اليوم سوى تعبير عن الفوضى عندهم. ولا ينبغي نسيان أن المثقفين اليساريين ساهموا بهذا الامتداد منذ أكثر من ثلاثة عقود (انظر سورية أثناء فترة صراع الأسد الأب مع الإخوان كيف انقسم الشيوعيون السوريون بين داعم وبين رافض للإخوان، ولاحقاً كذلك في 2005 في البيانات المشتركة بينهم، والآن كذلك في غمرة الموت السوري...). وفي الحقيقة، السيد يشبّه افتتان المثقفين العرب والمسلمين بإيران والإخوان بافتتان اليساريين والليبراليين الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين بالاتحاد السوفياتي أيام ستالين. لا يمكن الدخول في الإشكالات الكبيرة التي يتعرض لها الكتاب في هذه العجالة، لكنْ يبقى أنْ نشير إلى أنه على الرغم من تفصيله وتحليله للمسار التاريخي في علاقات الدولة بالدين وحركات الإسلام السياسي وإشكاليات التقليد والإصلاح وفشله والتعقيدات التي تمر بها «أزمنة التغيير» اليوم، إلا أنه يبقى عاقداً أملاً كبيراً في حركات التغيير الجديدة في تصحيح العلاقة بين الدين والدولة وتجاوز الصراع بين شقّي الإسلام (ص230). فإذا كان الحال، كما يختم الكتاب، بأنّ أفظع ما أصاب الدين على أيدي الإسلاميين والجهاديين هو عمليات تغير الوظائف والأدوار من حيث وظيفة الدولة ووظيفة الدين، فيبقى الأمر المهم أبداً هو كيفية تصحيح مسار تلك الوظائف: الدولة في علاقتها وإدارتها الشأن العام، والدين في علاقته وإدارته الشأن المنوط به أساساً، الشأن الديني الخاص. وهذا هو التحدي الكبير الذي ما زال مرسوماً أمامنا في عمق «أزمة التغيير». * كاتب سوري