عندما أراد الرئيس الاميركي باراك اوباما مخاطبة العالم العربي، اختار القاهرة منبراً لتوجيه رسالته الى 325 مليون نسمة. وعندما أراد مخاطبة العالم الإسلامي، اختار أنقرة للتحدث الى بليون ونصف بليون نسمة، من البلد الذي وصفه بالمركز الوسط حيث يلتقي الشرق والغرب. ولكن هذا المركز تعرض خلال الأيام القليلة الماضية للاهتزاز والتصدّع بسبب التظاهرات التي انتشرت في عدة محافظات، احتجاجاً على تقسيم حديقة ميدان «تقسيم». ولم تكن تلك الذريعة سوى المدخل الوسيع لجذب آلاف الشبان والشابات الى الساحات العامة، خصوصاً في أنقرةواسطنبول وأزمير. وقد استغل «حزب الشعب الجمهوري» المعارض هذه الحركة الشعبية الواسعة لتحريض المتظاهرين على إطلاق هتافات تحيي «الربيع التركي»، على اعتبار أن نار الثورة السورية قد امتدت الى حدود الجارة في الشمال. لذلك اتهم رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان عناصر خارجية بتشجيع «الرعاع» على إفساد أجواء الأمن والرخاء التي وفرها «حزب العدالة والتنمية.» وكان من الطبيعي أن تشير اتهامات اردوغان الى النظام السوري الذي روَّع قبل شهر تقريباً بلدة «الريحانية» التركية حيث فجّر سيارة مفخخة قتلت أكثر من خمسين شخصاً. الحكومة التركية في حينه، أرسلت قوات خاصة لتطويق البلدة، وامتصاص ردود الفعل في إقليم يسكنه مواطنون أتراك يتكلمون العربية، ويتألفون من طوائف مختلفة كالسنّة والأكراد والعلويين. وعلى رغم محاولات الانصهار الوطني التي قامت بها أنقرة، إلا أن سكان هذا الإقليم ما زالوا يعتبرون الإسكندرون جزءاً مسلوباً ضمته تركيا اليها عام 1939. عقب حدوث الانقلاب السياسي في موقف تركيا حيال سورية، وسقوط الأنظمة في مصر وتونس وليبيا، فوجئ بشّار الأسد بصديقه اردوغان يدعوه الى التنازل عن الحكم. ثم أتبع هذا التحول بدعم الثوار السوريين واستضافة مؤتمراتهم، واستقبال نازحيهم في مخيمات أقيمَت قرب الحدود. كذلك تحولت اسطنبول الى منبر دائم لرفع شكاوى الائتلاف المعارض والجيش السوري الحر والمجموعات المقاتلة الأخرى. الصحف التركية فسّرت موقف اردوغان في سياق يرجع الى الماضي أكثر من نصف قرن. يومها كانت أنقرة متحالفة مع الولاياتالمتحدة، في حين كانت سورية تُلقب ب «كوبا الشرق الأوسط» بسبب التصاقها بموسكو أثناء فترة الحرب الباردة. مقابل الوضع المنحاز الى حلف وارسو، أظهرت تركيا وضعاً منحازاً الى حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي أهّلها لأن تصبح أهم عضو بارز داخل الكتلة الغربية. وكان من المنطقي أن يقود خلاف الجارتين الى نزاعات جانبية تتعلق بمصادر المياه وتداخل الحدود الممتدة على طول سبعين كلم، ودعم سورية حزب العمال الكردستاني (عبدالله اوجلان). وكاد الوضع المتوتر بين الدولتين يصل الى شفا الصِدام المسلح عام 1998 لولا تدخل الرئيس المصري حسني مبارك. عام 2002، انتصر «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي في الانتخابات، وشرع زعيمه رجب طيب اردوغان في شن حملة لإنقاذ الدولة من أزمة سياسية-اقتصادية خانقة. ونجح خلال فترة قصيرة في تحقيق نمو اقتصادي سريع لم يسبق له مثيل. كما وظّف أيضاً انتصاره السياسي لاسترداد فكرة الخلافة الإسلامية التي ألغاها كمال اتاتورك عام 1924. كذلك عمل على تهميش سلطة الجنرالات الذين اعتبرهم اتاتورك حراساً للحفاظ على استمرار النظام العلماني الجديد. في ذروة الانتصارات الاقتصادية والسياسية التي حققها اردوغان وحزبه خلال السنوات العشر الماضية، فوجئ المراقبون بصدمة التظاهرات التي انتشرت في المدن والمحافظات. كذلك فوجئ اردوغان نفسه عندما رأى أن الجماهير تستخف بإنجازاته الاقتصادية، وبنتائج الاستقرار السياسي الذي أوصل تركيا الى المرتبة 17 في قائمة الدول النامية بمعدل 8 في المئة. وقد ساعدها على تجاوز مستوى دول الاتحاد الاوروبي قوة العمل الشابة التي حاكت الصين في سرعة الإنتاجية وجودتها. رئيس الجمهورية عبدالله غل حاول إقناع اردوغان بتأجيل زيارته الى المغرب العربي، بهدف امتصاص النقمة العارمة وتهدئة الشارع الغاضب. كذلك كلف نائب رئيس الحكومة بولنت اريتش بضرورة محاورة المتظاهرين والاعتذار منهم على ممارسة العنف والقمع من جانب الشرطة. وقد هاجمه أنصار اردوغان على إظهار سياسة التودد تجاه المتظاهرين بغرض كسب عطف الشارع واستغلال موجة الاحتجاج للظهور بمظهر المعارض لنهج رئيس الحكومة. رئيس بلدية اسطنبول انضم الى الفريق العامل بمنطق عبدالله غل، واعترف بقصوره لأنه لم يُحسن شرح المشروع لأهل المدينة قبل أن يأمر باقتلاع الأشجار. واللافت أن «الربيع التركي» ولد بمبادرة من أربعة شبان أرادوا الاحتجاج على قرار اقتلاع الأشجار من حديقة غازي المجاورة للميدان. وقد نصبوا الخيام لاستقبال المتعاطفين معهم من فنانين وممثلات وأدباء. وعندما هاجمتهم الشرطة أحرقوا الخيام وهربوا. ويرى الإعلاميون أن موضوع حديقة غازي لم يكن أكثر من سبب بسيط في قائمة أسباب الاحتجاج التي ركزت على سياسة الحكومة، وعلى شخصية رئيسها اردوغان بالذات. ولوحظ أن يافطات المتظاهرين كانت تحمل عناوين مختلفة تنتقد استئثاره بالحكم، كما تنتقد تفرد حزبه بالرأي حيال القضايا التي تخص كل شرائح المجتمع. وخصوصاً القضايا الدستورية المرتبطة بطموحاته لتعديل المواد التي تجعل منه رئيساً للجمهورية بسلطات تحاكي سلطات رئيس جمهورية الولاياتالمتحدة. في زحمة الاحتجاجات المتواصلة ضد سياسة التفرد والتسلط التي يمارسها «حزب العدالة والتنمية»، نشر الزميل محمد نورالدين، مؤلف كتاب «تركيا... في الزمن المتحوّل»، تعليقاً حول جسر «ياووز سلطان سليم» أي الجسر الثالث المُزمع إنشاؤه على مضيق البوسفور. الملاحظة الانتقادية التي سجلها الزميل كانت تتعلق بالخطأ الذي ارتكبته الحكومة التركية من وراء استفزاز عشرين مليون علوي (وهم يختلفون عن العلويين في سورية). ذلك أن السلطان سليم افتتح عهده (1512) بسلسلة مجازر راح ضحيتها أكثر من أربعين ألف علوي. وقد اتهمهم بالتآمر مع الشاه إسماعيل الصفوي لنشر مذهب التشيّع. والاقتراح الذي قدمه الزميل، يقضي بضرورة اختيار إسم جديد للجسر لا يزيد من حدة التوتر المذهبي في الداخل التركي، ولا يجسد الإرث العثماني لإعادة مكانة تركيا كزعيمة الخلافة. يقول قادة «حزب الشعب الجمهوري» المعارض إن الهياج الواسع لم يكن أكثر من تنفيس سياسي لاحتقان مزمن أطلقته عملية «حديقة غازي» ضد رئيس الوزراء الذي يستأثر بالسلطة منذ عشر سنوات. وكانت هذه السنوات كافية لتكديس أخطاء الداخل مع المعارضة الخارجية التي استغلت فرصة الفلتان الأمني كي تعبر عن استيائها بواسطة قوى محلية. العناصر المؤيدة لنظام بشار الأسد كانت السبّاقة للانضمام الى حملة السخط بواسطة الأحزاب والفئات التركية المعارضة. وكان هذا التصرف بمثابة ردّ انتقامي على الدور المنحاز الذي قام به اردوغان يوم ساند الغالبية السنية ضد الطائفة العلوية، الأمر الذي زاد في تأجيج الخلاف واتساع رقعة المواجهة بين الدولتَيْن الجارتَيْن. مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة مفاجئة لأنقرة، وذلك بغرض تغيير موقف تركيا من سورية. وذكر في حينه أن بوتين احتج على الخطوات الاستفزازية التي تمارسها تركيا، مثل تفتيش الطائرة السورية الآتية من موسكو ومصادرة حمولتها. ومن ثم نشر الدرع الصاروخية الاميركية على الحدود، إضافة الى نشر صواريخ «باتريوت» على الحدود. وبين الاعتراضات التي وجّهها وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، قوله إن اردوغان نقل نفوذ الحلف الأطلسي الى حدود روسيا عندما هدد باستخدام قوات الحلف لحماية منصات الصواريخ الموجهة نحو موسكو. هذا، ومع أن بوتين أعلن انفصاله عن الماركسية، إلا أنه أعرب عن سروره لمشاركة 13 منظمة شيوعية في التظاهرات التي استقطبت أكثر من 250 ألف يساري. نشرت الصحف الاسرائيلية سلسلة مقالات هاجمت فيها رجب طيب اردوغان، وقالت إن ما يحدث في شوارع بلاده ليس أكثر من تعبير عفوي للاحتجاج على سياسته المتقلبة. وذكرت أن الرئيس الاميركي اوباما نجح في إجراء مصالحة بين بنيامين نتانياهو وأردوغان، عقب خلاف عميق انفجر عام 2010 بعد مقتل تسعة أتراك كانوا ينقلون مساعدات الى قطاع غزة المُحاصَر. قبل أسبوعين تقريباً، دُعيَ اردوغان لإلقاء كلمة أمام منتدى نظمته الأممالمتحدة في فيينا. وفوجئ الحضور بوصف أطلقه رئيس وزراء تركيا على الصهيونية بأنها «جريمة ضد الإنسانية.» ورد عليه نتانياهو بتصريح قال فيه إن اردوغان «كاذب ومعادٍ للساميّة». في حين نشر رئيس تجمع الحاخامين في اوروبا بنحاس غولدشميت بياناً قال فيه: «ان التهكم في مثل هذه التعليقات لن يغيب عن عائلات مَنْ قتِلوا أثناء مذبحة الأرمن، الجريمة التي تتجاهلها تركيا». وبسبب ذلك التصريح، انضم أفراد الجالية اليهودية في تركيا الى صفوف المتظاهرين. قدّرت الصحف المحلية أعداد النساء المشاركات في «ربيع تركيا» بأكثر من النصف. وعزت هذه المشاركة العالية الى التصريحات السلبية التي أدلى بها اردوغان عندما انتقد عمليات الإجهاض لأنها في رأيه «قتل متعمَّد». كما انتقد فتيات المهن الحرة، وقال إن المطبخ هو المكان المثالي للمحجبات والمقنعات. الجهة الصامتة التي اتهمتها جماعة اردوغان بتشجيع التظاهرات هي الجهة المؤلفة من 400 ألف نسمة، أي الجيش النظامي الذي حيَّده الحزب الحاكم وهمَّش دوره. ويتردد في أنقرة أن الجنرالات اكتفوا بالتفرج على مشاهد الفوضى، من دون أن يتدخلوا لمنع امتدادها الى الأحياء المكتظة بالسكان. وقد حذرت المعارضة من انتقامهم في حال ساءت الأحوال الأمنية، أو في حال نجح النظام السوري في نقل المتفجرات الى أنصاره داخل تركيا. أثناء زيارته المغرب العربي، حاول اردوغان الدفاع عن سياسته بدلاً من الانصراف الى تحقيق المهمة التي سافر من أجلها. أي مهمة المصالحة وإطلاق الحوار بين زعماء الدول العربية الذين هزتهم الثورة الليبية. ولكن الرئيس عبدالله غل دعاه الى استعجال العودة، بهدف مراجعة الخيارات التي طرحتها المعارضة، وتصحيح مسار الحزب بطريقة تمنع عنه الاضرار المتوقعة. مراكز الدراسات في واشنطن نصحت تركيا بالخروج من مستنقع سورية بعد أن انتقل العنف الى داخل حدودها على وقع سيارات مفخخة. وهي ترى أن السياسة المتخاذلة التي تمارسها إدارة اوباما قد تدفع «حزب العدالة والتنمية» الى خسارة قسم كبير من شعبيته، خصوصاً أن الرئيس الاميركي أبلغه عزوفه عن استخدام الحسم العسكري. في ضوء هذه المعطيات، يرى المراقبون أن اردوغان سيكون أكثر حذراً في تعاطيه مع ائتلاف المعارضة و «الجيش السوري الحر». خصوصاً أن الرئيس عبدالله غل عازم على وضع إستراتيجية جديدة للمرحلة المقبلة تنقذ الحزب من الخطر الذي يتهدده، وتمنع تركيا من الانزلاق نحو الهاوية! * كاتب وصحافي لبناني