صدور قرار هيئة المحلفين في المحكمة الجنائية في ولاية فلوريدا بتبرئة جورج زيمرمان، الحارس المتطوع البيروفي الأصل، من تهمة القتل المتعمد لترايڤون مارتن، الشاب الأفريقي الأميركي، إثر عراك ناجم عن ملاحقة الأول للثاني، أدى إلى تصعيد في مسألة وإن انحسرت، تبقى دوماً عرضة للبروز في الولاياتالمتحدة، أي المسألة العِرقية. وفي حين أكد الرئيس أوباما مراراً أن هذه المسألة تطاوله مباشرة، فإن تعليقه على الأجواء التي تلت صدور الحكم، قوبل بالترحيب والاستهجان على حد سواء بين مَن يرى أن دوره في هذه المسألة إيجابي، ومَن يرفض تدخله ويعتبر أن كلامه مسيء. القضية التي كانت أساس الفورة الأخيرة في الموضوع العرقي هي قضية شجار بين حارس متطوع ومشتبه به، أدت نتيجة سوء التقدير لدى الطرفين إلى إطلاقومقتل الشاب الأعزل. فثمة مَن يرى أن المسألة ظلم مضاعف، إذ جاءت ملاحقة الشاب نتيحة اشتباه غير مبرر، وغير قائم إلا على موضوع العرق، فيما يرى آخرون أن إطلاق الحارس المتطوع النار كان مبرراً نظراً إلى أن الشاب الأُفريقي الأميركي هاجمه وواجهه، واعتدى عليه. والواقع أن القضية بحد ذاتها تفتقد ملامح الامتياز التي ترتقي بها إلى مستوى القضية الوطنية العامة، ومنذ الحادثة توالت حوادث عديدة مشابهة، من دون أن تلهب العواطف وتستنفر الأحقاد. وهنا تبرز الروايتان المتضاربتان، لا حول الحادثة بل في ما يتعلق بخلفيتها. فالرواية في الأوساط الأفريقية - الأميركية أن شبابها مستهدف، ومراقب، ومتابع، وعرضة في كل حين للاعتداء، وحياته أقل ثمناً، والعدالة لا تتحقق لمصلحته، فلو لم يكن المجني عليه أسود اللون لما قتِل، ولو قتِل لنال قاتله الجزاء لا محالة، أما الأسود، فله الموت وعليه السلام. الرواية المضادة، أنه خلف ستار الحماية من العنصرية، يريد بعض الأفارقة الأميركيين الإفلات من المسؤولية. أوليس ثلاثة أرباع الأطفال في المجتمع الأفريقي - الأميركي ينشأون من دون والد خارج إطار الزوجية؟ أوليس الفشل في الدراسة، لا النجاح، هو ما يطالب به التلميذ الأسود، باعتبار أن النجاح هو تشبه بالأبيض؟ أوليس الانتماء إلى عصابات بيع المخدرات المثل الأعلى بالنسبة الى العديد من الشبيبة السوداء؟ وإذا كان كثيرون من الشخصيات الأفريقية الأميركية لا يرفضون التوصيف المعادي بالكامل، فإنهم يشيرون إلى أنه حتى في الحالات التي يصحّ فيها، يكون عائداً إلى فشل المجتمع الواسع في استيعاب الفئات السوداء، وهذا الفشل هو الذي فاقم المشكلة. فالمسألة ليست أن مجتمعاً أسود يسعى إلى أن يكون هامشياً بل أنه مجتمع يتعرض قسراً للتهميش والإقصاء. فبين الاتهام والاتهام المقابل يشهد المجتمع الأميركي انفصاماً تصطف فيه الغالبية العظمى من الأفارقة الأميركيين، ومعها حفنة من التقدميين من سائر الفئات العِرقية، في وجه تعبئة عرقية معادية تستعيد في بعض الأحيان الأدبيات الساقطة للتيارات العنصرية. وإذا كان أوباما، وهو أول رئيس أميركي مصنف أفريقياً أميركياً، تقدم خلال حملته الانتخابية الأولى بطرح حول المسألة العِرقية سعى فيه إلى نقل الحوار في شأنها من خانة العاطفة المعبأة إلى إطار المسؤولية الوطنية الفعالة، من خلال اعتبار الاستقطاب العرقي نتيجة لظروف اقتصادية وتربوية تقتضي العمل لتحقيق تكافؤ الفرص، فإن انتخابه لمرتين ساهم في إذكاء الوعي العرقي لدى أكثر من فريق، لا سيما من خلال الإصرار في أوساط اليمين الثقافي المتسع، على التشديد على خروج أوباما عن الإجماع الوطني بحكم هويته الأفريقية حيناً والإسلامية حيناً آخر والغريبة عن «الأصالة» الأميركية في كل حين. والرئيس أوباما، في قضية زيمرمان مارتن، رغم الإشارة العابرة إلى ضرورة احترام قرار هيئة المحلفين، لم ينهج منهجاً وسطياً بين السرديتين، بل جاء موقفه ملتزماً الرواية السائدة في الأوساط الأفريقية الأميركية، حين قال إن هذا الشاب الضحية كان بالإمكان أن يكون هو، أي أوباما، نفسه. وهو في حديث سابق، وصف الشاب بأنه كان بالإمكان أن يكون ابناً له. ففي الحالتين، يخرِج أوباما تفاصيل الحادثة من دائرة التداول ويضعها في إطار الحدث العِرقي. أي أنه يقبل صراحة مقولة أن ما جرى يعود إلى لون بشرة الشاب، لا إلى أخطاء أو هفوات أو عثرات ارتكبها أو وقع فيها، فيما الرواية المقابلة تمعن في اللجوء إلى أسلوب مشابه في تبرئة قاتله. فهو لم يقتل إلا دفاعاً عن النفس إزاء اعتداء من الشاب، من دون الإشارة إلى دوره في عدم تجنب الاشتباك ابتداءً. فأوباما يضع نفسه في موقع منحاز صراحة إلى وجهة نظر، ويخرج نفسه من موقف الساعي إلى التوفيق، كما اعتاد. ومن السهل طبعاً إدراج موقفه في إطار العصبية العرقية، وهي الآفة الملازمة للمجتمع الأميركي، ومن السهل كذلك محاولة استشفاف بعدٍ انتخابي ما في هذه الخطوة، سواء لضمان تعبئة الأفارقة الأميركيين والتقدميين (وهم أساساً مجندون لمصلحته)، أو في مناورة لاستقدام مسألة الحد من السلاح، بعد أكثر من فشل في هذا الصدد. لكن التفسير الأقرب إلى الواقع، هو ان هذا الرئيس الذي أبدى في أكثر من ملف مقادير كبيرة بل مبالغاً فيها من الوسطية والتروي والتأني وما شابه، ينطلق في هذه الحالة من موقف مبدئي صارم. إذ يمكن اتهام أوباما بالنخبوية والابتعاد عن قناعات عموم الأميركيين وميولهم على أكثر من صعيد، إلا أنه أبدى في موضوع السعي إلى تجاوز العِرقية إصراراً مستمراً، وهذه المواقف آخر النماذج عليه. غير أنه، بعدما خسر كثيراً من الزخم في التأييد، ربما جاء متأخراً في مسعاه.