أظهرت التحولات التي حصلت في مصر، بانقلاب الجيش على الرئيس المنتخب محمد مرسي، مفارقات عدة تحتاج إلى تفكّر، وتكشف لنا كيف أن الديموقراطية ليست سهلة المنال في بلدان مثل بلداننا، ليس لأن الشعوب العربية حكمت طيلة عقود من أنظمة مستبدة، فحسب، بل أيضاً لأن تاريخنا كله هو تاريخ الحكم الفردي. فطيلة قرون ونحن داخل فكر يمجد الحاكم الفرد والزعيم الملهم ويتعايش مع انتقال السلطة من شخص إلى آخر داخل القصور من دون أن يكون للشعب كلمة في الموضوع، وبعد أن يعين الحاكم يخرج لكي يخطب في الرعية ويرسم لها المسار الذي يجب أن تمشي عليه. والإخوان المسلمون ليسوا استثناء من هذه القاعدة، ولا هم كائنات خرافية تعيش في مياه غير هذه المياه وتتحرك على هامش هذا الفكر. وقد ظلوا خلال تاريخهم كله يفكرون بنفس الطريقة ويكتفون بنحت عناوين دينية فضفاضة للتخفيف من حدة الاستبداد الموجود في مضامين الخطاب السياسي المغلف بالدين. لقد أخذوا الاستبداد كما هو وألبسوه ثوباً دينياً لكي يصير مقبولاً، لكنهم فعلوا ذلك بنية حسنة ومن دون قصد الإساءة إلى أحد، لأن الثقافة التاريخية التي ورثوها كانت أقوى منهم. وعلى الرغم من أنهم ظلوا دائماً ضد الاستبداد والتسلط، إلا أنهم كانوا ضد استبداد الآخرين فقط باعتبارهم خصوماً، ولم يتجرأوا على الخوض في الأسباب العميقة المولدة للاستبداد. كانوا يعارضون المستبدين، وليس الاستبداد، بدليل أنهم في كل مرة أعطيت لهم فرصة الحكم أعادوا إنتاجه من جديد، وظلوا خصوماً للديموقراطية، وحين يدافعون عن الشرعية في مصر اليوم ويطالبون باحترام الديموقراطية فهم يتباكون على شيء لم يكونوا يؤمنون به من قبل ولم يساهموا في إشاعته بين الناس. ومع إقالة محمد مرسي من منصبه بدأ العقل الباطن لجماعة الإخوان المسلمين يعبر عن نفسه من خلال شعارات هي خصيمة الديموقراطية من الأصل، شعارات تكشف التناقضات التي يحبل بها هذا العقل. فالبعض يرفع شعار»إسلامية إسلامية» وكأن الأمر يتعلق بحرب ضد جماعة من الكافرين، لا ضد خصوم سياسيين هم جزء من الإسلام. وهناك من تحدث عن معسكر يقف فيه الإسلاميون مقابل معسكر يقف فيه العلمانيون والأقباط، هكذا دفعة واحدة. وبالنسبة لهؤلاء فإن أي شخص رافض لحكم الإخوان هو بالضرورة علماني، والعلمانية هنا لا تصبح فصلاً للدين عن الدولة، كما يدعون دائماً في إطار التعميم الفضفاض، بل تصبح تعبيراً عن تيار سياسي منافس للتيار الإخواني، وتصبح هناك معادلة منطقية تقول إن كل معاد للإخوان علماني، وكل علماني معاد للدين، إذاً كل معاد للإخوان معاد للدين. لكن المفاجأة الأكبر هي أن الكثيرين جداً ممن خرجوا للشوارع ضد قرار العزل كانوا يرفعون شعارات تمجد جماعة الإخوان المسلمين، ويعلنون جهاراً أن هناك مؤامرة ضد الجماعة، ويبشرون بالنصر بطريقة توحي بأن القضية هي قضية صراع طائفي لا قضية صراع سياسي. والحال أن مرسي كان يقدم قبل أسبوع فقط بوصفه رئيساً مدنياً لا زعيماً دينياً قادماً من جماعة دينية، بل فاز في الانتخابات باسم حزب سياسي هو حزب الحرية والعدالة، لكن اسم الحزب اختفى من الأسواق وحل محله سريعاً اسم الجماعة، وهذا في رأيي يمنح المشروعية للملايين التي خرجت في الشارع تعلن رفضها حكم الإخوان المسلمين، لا لحكم الرئيس المنتخب، كما يمنح الشرعية للطرف المناوئ الذي يقول إن الرئيس الفعلي لم يكن مرسي بل مرشد الجماعة، ويكشف بالتالي أن ذلك التمييز بين الجماعة والحزب هو مجرد تمييز إجرائي للتحايل على القانون، لا اقتناع موضوعي بأهمية العمل المدني بعيداً من مظلة الجماعة الدينية. هذا لا يعني أن الآخرين مبرّأون من لوثة الاستبداد والهيمنة، بل يعني أن الدين أيضاً يمكن أن يكون غلافاً لحكم مستبد بشع مثلما كانت الاشتراكية والقومية في البلدان العربية. لكل القيم النظيفة لدى الإنسان القدرة والمهارة على تحويلها إلى أداة للتسلط، لكن الدين أخطرها على الإطلاق، لأن القومية والاشتراكية يمكن للإنسان أن يختارهما، لكن الدين يختاره الله للناس ويهدي إليه من يشاء، ولذلك من الصعب أن يتقبل مسلم أن يتسلط عليه مسلم آخر باسم الدين، لأنهما فيه سواء أمام من أنزله. السبب في نزعة الهيمنة لدى الإخوان، ولدى غيرهم بالطبع، هو غياب الثقافة الديموقراطية التي ترفع من درجة التسامح مع المخالف وتعطيه الحيز الذي يستحقه. الديموقراطية مثل الضريبة، لا بد من دفعها لكي تستمر الدولة في أداء ما عليها تجاه المواطن ولكي تدور عجلة المؤسسات. ولكي تدور عجلة المؤسسة الكبرى التي هي المجتمع السياسي لا بد أن يدفع كل واحد ضريبة للآخر وبشكل تبادلي. لكن هذه الثقافة لا تزال بعيدة، ولذلك نعيد في كل مرة إنتاج الاستبداد بأغلفة مختلفة لأن الثقافة المشتركة لدى الجميع واحدة هي ثقافة الحجر والهيمنة والتسلط الفردي أو الجماعي. أذكر هنا العلامة الراحل محمد حسين فضل الله، فقد كتب في بداية التسعينات من القرن الماضي مقالاً ما قرأت أعمق ولا أقصر عبارة منه وقلة تطويل، كان عنوانه «شرقي الهوى إسلامي الهوية»، قال فيه إن الإنسان العربي في الشرق لا يزال أسير ثقافة تميل إلى تغليب كفة الاستبداد على كفة الحرية، وسواء كان يسارياً أو ليبرالياً أو قومياً أو إسلامياً فهو يبقى شرقي الهوى لجهة نزعة الهيمنة والاستحواذ وقهر الخصوم، أما الانتماءات الإيديولوجية فهي فقط عناوين يوظفها لكي يبرر مشروعية الاستبداد. * أكاديمي من المغرب