لا يدخل احد الى طرابلس إلا ويلفت نظره مشهد انتشار دبابات الجيش اللبناني في معظم شوارع المدينة الشمالية وأحيائها. لم يعد فقر الأحياء واهتراء مبانيها يشدّان العابر. صار لزاماً عليه ان يعرف صورة أخرى للمدينة القلقة على أمنها، والتي تعيش بشكل مستمر خضّات أمنية، تبدأ بحوادث «باب التبانة» و «جبل محسن»، ولا تنتهي باشتباكات متفرقة مع ظهور المسلحين في الشوارع. لكن على رغم كل ما تعيشه طرابلس، يعمل المجتمع المدني بجهود مضاعفة، لإخراجها من صورة «نمطية» تكونت عنها، من خلال تفعيل دور دؤوب لرفض العنف، ومنع المسلحين من توسيع رقعتهم وانتشارهم، وتفعيل علاقات اللجان الأهلية وتنشيط حركة مدنية مشابهة لنشاط «طرابلس مدينة خالية من السيارات» او مجموعة «طرابلس مدينة ضد السلاح»، او من خلال جمعية «بوزار» التي تهتم بالفن ونشر ثقافة لا عنفية عبر الفن وتحويل جدران الأحياء المتقاتلة الى أحياء ملونة وغير مشوهة بصور الدمار والتهميش. طرابلس «مدنية» حصول الحوادث الأمنية بشكل متواتر ومستمر على رغم الهدنات الهشة التي يتدّخل مشايخ الأحياء والسياسيون والأمنيون لتثبيتها، يوقف في أكثر الأوقات عجلة التنمية في مدينة تعد من الأكثر فقراً في لبنان، ونسبة التسرب المدرسي والبطالة فيها الى ارتفاع دائم. في هذا المشهد برز دور المجتمع المدني. أسس لهذا الدور عدد من الأساتذة الجامعيين والمهندسين والمحامين وأصحاب المهن الحرة، يطالبون من خلاله بتفعيل مقومات المدينة، وتحريك المشاريع المتوقفة فيها والمقررة في اكثر من عهد حكومي ورئاسي. وتحاول الجمعيات الأهلية اقناع اليافعين والشبان المسلحين بترك سلاحهم، والانضمام الى «طرابلس أخرى، مدنية لا عسكرية»، خصوصاً ان الناس أمست غاضبة من حال «العسكرة» المحيطة بالمدينة وبمفاصلها اليومية. «بوزار» لتجميل المدينة يعدّ مشروع «بوزار» الساعي الى تجميل شوارع بمحلة القبة، المتاخمة لخطوط التماس، مشروعاً مفصلياً لعمل مدني، خارج إطار الدولة او مؤسسات السياسيين النافذين في المدينة. وشكل منذ انطلاقته عام 2004 صورة حضارية للمدينة. يؤكد الأستاذ الجامعي رئيس جمعية «بوزار» طلال خواجة أن «الفوضى العامة التي تخترق المدينة في معظم مفاصلها فوضى مرعية من قوى وفعاليات كثيرة، ما يجعل التصدي لها مهمة تقع على عاتق جميع قوى المجتمع المدني، العاملة والمكافحة من أجل استجلاب هجمة تنموية للمدينة التي تزداد فيها حالات البؤس والحرمان وتتسع فيها الهوة الاجتماعية بين شرق البولفار (اهم شوارع المدينة) وغربه». ويضيف أن «مفاقمة عوامل التوتر والتشنج تهدد النسيج الاجتماعي للمدينة، التي لطالما كان أهلها سباقين في الدفاع عن القضايا العادلة». ويشير الى ضرورة «إيجاد لوبي لدعم تنفيذ خطة التنمية الإستراتيجية للفيحاء، عبر الجمعيات والجهات المانحة». ويعمل خواجة مع مجموعة كبيرة من وجوه طرابلس والشباب في «بوزار»، وهي جمعت اقطاباً في الفن اللبناني والعربي، وأطلقت جداريات فنية طمست مشاهد الحرب والدمار من جدران كليات في الجامعة اللبنانية، وجملت شارعاً رئيساً في محلة القبة، المفتوحة على التنوع الطائفي بين اقضية الكورة وزغرتا والضنية وعكار والمنية. الى جانب عمل «بوزار»، يسعى المجتمع المدني الى تحريك ملف البناء الجامعي الموحد، والدفع به ليتحول من حلم الى حقيقة، لتأثيره الايجابي المرتقب في مستوى الاختلاط في المدينة وبين ناسها، وإعادة الثقة المجتمعية بينها وبين سكان المناطق المجاورة وربط بعضهم بعضاً في مساحة حوارية وثقافية واكاديمية واحدة، وإعادة التشبيك بين مكونات شابة شمالاً خارج الاصطفاف الامني والمذهبي والطائفي، وبناء صرح حضاري ذي وظيفة انمائية بحتة. وربما لكل ذلك يعتبره بعضهم اهم مشروع انمائي شمالي منذ اتفاق الطائف عام 1991. ويقول خواجة ان «المدينة الجامعية قضية طرابلسية وشمالية في آن، واختيارنا لموقع «مون ميشال» في قضاء الكورة، المشرف على طرابلس، يستهدف اعادة الثقة والتنوع الى الكليات وربط طرابلس بمحيطها المسيحي». ويشدد على أن ذلك «يعيد للفيحاء دورها في ربط الأقضية المجاورة، وهي لا شك تمتلك مؤهلات أساسية لإعادة تنشيط هذا الدور وتوسيعه، على رغم الاحداث الأمنية، والتعتيم الإعلامي على ما تمتلكه من خصوصية وتنوع». ويلفت الى «خطة انمائية فاعلة يعمل عليها ويتابعها المجتمع المدني منذ اعوام ومع تعاقب حكومات الشهيد رفيق الحريري تحديداً، الذي كان لديه الدور الأساس لتمرير هذا المشروع الضخم، وتأمين امواله من خلال العلاقات التي كان يملكها». ويذكّر خواجة بأن «المشروع شهد صعوداً وهبوطاً في مسيرته، خصوصاً انه ترافق مع كل ما مر على البلد من صراعات واستهدافات واغتيالات وانقسامات حادة، الا ان عناد حاملي المشروع من قوى المجتمع المدني، وأهميته عند الناس جعلاه ينفذ من براثن التشققات السياسية ومحاولات الاستثمار في التلة الجميلة. فحصلت الاستملاكات وبدأت الجرافات بالعمل والسنة المقبلة سيبدأ التعليم في كليتي العلوم والهندسة».