«جولة في تراثنا: نظرة جديدة معاصرة للفن اللبناني الحديث»، عنوان لمعرض من تنظيم جمعية «ليبان أرت» (جانين معماري وماري طنب)، بالتعاون مع شركة سوليدير، يقام في مركز بيروت للمعارض (البيال - حتى 4 آب)، يلقي الضوء على مساحات مبهمة من علاقة الجيل الجديد بتراثه الفني الضائع، يشارك فيه عشرون فناناً معاصراً ولدوا بعد العام 1973، بأعمال متنوعة الخامات والاتجاهات والأساليب، يفترض أن تكون مستوحاة في شكل حر من انجازات فنانين محدثين ولدوا قبل العام 1930، ذلك ما أدى إلى ظهور مقاربات تحاكي اعمال فنانين كبار أمثال: خليل الصليبي وجبران خليل جبران ويوسف الحويك وماري حداد وهيلن الخال وفريد عواد وشفيق عبود وصليبا الدويهي وسلوى روضة شقير وميشال بصبوص. لا يبدو أن العلاقة بين الحداثة والمعاصرة في سياقات تاريخ الفن في لبنان واضحة، على مستوى الجيل الجديد، حتى يكاد يختصر الماضي التشكيلي في لبنان على بضعة اسماء وعناوين، لكأن الصورة مهزوزة في تعاطي جيل الحرب مع تراث شفوي الى حد كبير، ما أدى الى ظهور تجارب عرضية وهامشية، ما خلا بعض الأعمال المتميزة التي تستحق التوقف عندها نظراً الى ما تنطوي عليه من اجتهادات فردية تمكنت من استدعاء بعض المفاهيم والأفكار التي طرحها فنانون قدماء ومحدثون بأسلوب معاصر. إذ ثمة غياب للنقاش حول الجدلية المفترضة في علاقة الأجيال بعضها ببعض لدى منظمي المعرض، فالكلمات المنشورة في كتيب المعرض قد بررت النتائج الظاهرة، على ضوء افتقار لبنان إلى متحف للفن الحديث، وبالتالي فإن هذا الخلو من الدور التثقيفي والبصري على السواء، يستدعي بذل جهود مضاعفة وبتخصصية عالية، من أجل تقريب المسافات وفهم السياقات التاريخية، التي تذهب إلى أبعد من طرح شعار أو عنوان، كي لا تصل الأعمال في أحسن الأحوال إلى فروض من نوع الدراسات المقارنة لدى طلاب الجامعات حين يطلب إليهم التعاطي بأسلوب معاصر مع فنان قديم. هكذا نجد أن معظم نتاجات العارضين يدور في فلك أساليبهم الخاصة وموضوعاتهم المعتادة، التي تظهر معطوفة على نصوص غالباً غير مقنعة عن استلهامهم لفكرة أو لعمل من فنان لا يملك حوله غير معلومات سطحية. واحياناً يشعر زائر المعرض بأن إسقاط اسم «الفنان المفضل» جاء مجروراً بالإضافة، فضلاً عن وجود أعمال لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بموضوع المعرض، وكان لا ضير من استبعادها عن دائرة العرض لأنها لا تضيف شيئاً. الحداثة المستعادة الواقع أن الموضوع ليس بهذه البساطة والخفة، لا سيما حين يتعلق الأمر بمحاكاة فنانين كبار صنعوا ثورة الحداثة في لبنان كلٌ على طريقته، كي يتحول احياناً على يد جيل غالباً غير مهتم وغير معني بالأمر إلى ما يشبه السخرية. فلو رأى خليل الصليبي (1870- 1928) مآل صورته الذاتية الأخيرة، كيف تخرج من بين أنامل رسامين جدد وقفوا أمامها ليقلدوها لكان تمنى الموت. ورغم أن الفكرة التعليمية لرائد ياسين من وقوف تلامذة الفن أمام لوحة متحفية للتعلم منها عند نقلها تذكّر بمشهدية نفتقدها لعدم وجود متحف، ولكن ما نراه من نتائج هذه الوقفة هو شيء مثير للشفقة، لا يشبه ابداً التحويرات المرعبة التي أجراها فرنسيس بيكون على صورة البابا اينوسنت العاشر لفيلاسكويز، ولا التشويهات المتعمّدة التي أحدثها مارسيل دوشان على وجه الموناليزا. ولو قدّر لسلوى روضة شقير (1916) أن ترى ما حل بتكاوينها الفضائية والشعرية وفلسفتها البنائية في التجريد الهندسي، مع «فزاعة» ماريا قزعون ومسطحات ستيفاني سعادة، لفضلت العودة إلى مطارح الغياب. لعل الأمر ينطبق ايضاً على شفيق عبود (1926- 2004) وفريد عواد (1923- 1982) وهلن الخال (1923- 2009)، الذين تحولت صورهم وأعمالهم إلى مجرد زخارف تزين أردية شخصيات زينة عاصي الثلاث الآتية من زمن المجاعات. في حين طغت مظاهر التهتّك على تجهيز مازن كرباج في استعادته منحوتات خالته الفنانة المغمورة اسبيرانس غريّب، الموضوعة تحت عنوان «المقدس والمدنس»، بين حدي الإثارة والسخرية. وعلى رغم التقنيات البصرية التي استخدمها سيسكا في تجهيز من نوع الفيديو عن بيت ميشال بصبوص (1921- 1981) في راشانا، الشبيه بمنحوتة خالية من الزوايا الحادة، فإن رتابة تكرار الصورة السالبة (Négatif) بتقشف ألوانها وغماميتها على الشاشة مع نص بصوت الكاتبة تيريز عواد بصبوص، لم يصل الى القبض على أسرار عبقرية النحات الراحل ومنجزاته. لا ننكر بأن المعرض أثمر تجارب متميزة وطموحة، برزت في محاولة اكتشاف الماضي واستيعابه والحوار معه من جوانب شخصية وتطلعات انسانية ضمن اشكاليات متصلة بالذاكرة الجماعية أو الينابيع الروحانية في إعادة انتاج الرؤية الجمالية او الخطاب النقدي القديم - الجديد، بأساليب معاصرة. إذ أن الأعمال التجهيزية والنحتية التي قدمها محمد سعيد بعلبكي تحمل في مضامينها نوعاً من النقد السياسي لانقسامات المجتمع اللبناني ونتائجها المدمرة ماضياً وحاضراً. هذه الانقسامات التي ظهرت على العلن، في أعقاب إزالة نصب الشهداء للنحات اللبناني يوسف الحويك (1883- 1962) على خلفيات سياسية، واستبداله بنصب برونزي للفنان الايطالي مازاكوراتي، وما تعرض له هذا الأخير في جولات الحرب اللبنانية من تهشيم وآثار قنص وقصف أدى إلى فقدان بعض أجزائه، التي أعادها بعلبكي إلى حيّز النظر، من خلال تصميم اليد الضائعة للتمثال تحت عنوان: يد واحدة لا تصفّق. اللافت في المعرض شريط فيديو من تنفيذ روي سماحة وعمر فاخوري، ينقلنا إلى الحياة الغامضة للرائدة ماري حداد (1889- 1973) وهي أول رسامة لبنانية عرفت طريقها الى الشهرة في باريس من خلال كتابات الناقد لوي فوكسيل، كما انها شاعرة بالفرنسية ارتبطت بالداهشية (نسبة الى الزعيم الروحاني المثير للجدل الدكتور داهش) التي قلبت حياتها من البرجوازية الى الروحانية، في سرد بصري متميز بايحاءاته ودلالاته الرمزية والشعرية التي تتحدث من تحولات رسم لعصفور على الشجرة لا يلبث أن ينطلق إلى الحياة. استعادة جبران كثر هم الفنانون الذين استوحوا كتابات جبران خليل جبران (1883- 1931) ورسومه، منهم عبدالرحمن قطناني الذي نقل مفهوم القداسة لدى جبران على مجسم معدني، ولكن الأكثر تميزاً هو ألفرد طرازي، في مقاربته لملامح رسوم جبران وشخصياته بطابعها الإنساني والشعري المليء بالروحانية المعطوفة على النقد الاجتماعي الذي ينطوي عليه كتاب الأجنحة المتكسرة، التي تبدو مندمجة بجراح الحرب اللبنانية والمحاور القتالية التي شهدتها بيروت، وسط مناخات تعبق بألوان الحرائق والدخان وظلام الأمكنة. وتستأثر بالإهتمام الاختبارات الهندسية واللونية التي أجراها دانييل جنادري انطلاقاً من تجربة الفنان صليبا الدويهي (1915- 1994) في الحقبة الأميركية التي استخدم فيها المؤدى البصري والشعوري لعالم الألوان التي تتقاطع في مشهدية الحد القاسي، تلك المعادلة التي وجدها جنادري ماثلة في لوحة جبل لبنان ليس كطبيعة جبولوجية عملاقة فحسب، بل كعالم لوني شفاف يشكل قاعدة لبنى هندسية من حدود قاسية متفاوتة العلو ناهضة على شفافية ألواح البلكسي غلاس في تكوين فضائي معاصر. وإذا كان معظم العارضين الشبان قد سعوا الى ايجاد موحياتهم من تراث المعلمين الراحلين، إلا أن الرسامة الشابة شفا غدّار قد خرجت عن القاعدة حين رسمت صورتها الذاتية بتقنية الفريسكو، وأرفقتها بخطاب نقدي رفضيّ وتحريضي، أعلنت فيه قطع صلتها مع الماضي التشكيلي الذي لا يعني لها شيئاً تحت ذريعة سلوكيات الفنانين اللبنانيين التي لطالما كانت تتجه نحو الاستقلالية والفردية، فكل جيل يعتبر أن الفن قد بدأ معه. ولئن بدا هذا الموقف هو الأكثر تطرفاً وجهراً في سلبيته، ولو كان على جانب من الحقيقة ولكنه مضاد لفكرة المعرض أساساً كما انه ينسف كل النظريات المرافقة له.