عندما افتتحت الحكومة المصرية إذاعاتها الرسمية الأولى، منتصف عام 1934، بالتعاون مع شركة «ماركوني» الإيطالية، حرصت على أن تنتج وتذيع أغنيات كبار المطربين، أمثال أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، سعياً إلى تشكيل الذوق الفني للمستمع المصري. وتجاهلت أغاني الفولكلور والتراث الصعيدي وأغاني الفلاحين، لتبقى هذه محصورة بمن يستمعون إليها في الموالد أو في حفلات السمر. ولم تبدأ الإذاعة الرسمية ببثّ الأغاني الشعبية، إلا بعدما أخذت طابعاً أكثر التزاماً في شكل الأغنية الحديثة، بداية من أغاني محمد رشدي ومحمد العزبي في الستينات. أما قبل ذلك، فيصعب تحديد نقطة الوصل بين مواويل الرواة وأغاني الموالد والارتجال، والتحول إلى الأغنية الشعبية ذات الكلمات واللحن والتوزيع، المحتفظة بروح الحكواتي، سمتها الأساسية، في تفضيل الإيقاع على النغم. ويتردد أن روح الأغنية الشعبية هي الحكاية التي ترويها، والكلمة القوية القريبة من لسان السامع، حتى تختلط بمعجم عقله، وتنضم إلى قائمة مصطلحاته اليومية. بدأت حكاية الأغنية الشعبية في موالد مصر، والليالي التي أحياها المنشدون والمدّاحون ومرددو المواويل في القرى والمراكز، ولم تعرف طريقها للتوثيق إلا في بداية ظهور الفيلم المصري، والاستعانة بموال كلما دعت الحاجة. ففي فيلم «ابن الحداد»، ليوسف بك وهبي ومديحة يسري (1944) أدّى في أحد المشاهد مطرب - فقد ذراعه اليمنى، فاكتسب بذلك اسمه الفني: محمد أبو دراع - أغنيتين. اشتهر أبو دراع بغنائه في حديقة الخالدين، بين أوساط العامة حينها، لكنه سرعان ما اختفى. عاصر أبو دراع مغنٍ آخر هو محمد طه، الذي حاز شهرة أوسع، وقدرة فائقة على الارتجال، فخلّف وراءه آلاف المواويل، وعدداً من الأفلام أشهرها «السفيرة عزيزة»، و«دعاء الكروان». وعاصرهما في حينه المطربة خضرة محمد خضر، ابنة الريف، المتحدرة من أسرة من المداحين، باحثة عن الشهرة في سراديق الغناء في مواليد الحسين، وغيرها. اكتشفها زوجها زكريا الحجاوي، وقدمت أعمالاً منها قصة «أيوب المصري»، التي اتُخذت تيمة لعدد من الأفلام «الزوجة الثانية»، و«اللص والكلاب». بعد انتهاء حرب أكتوبر 1973، وبداية فترة الانفتاح الاقتصادي المصري، في سبعينات القرن العشرين، ظهرت طبقة جديدة من الأغنياء ذوي الخلفية الأكثر قرباً من الشارع المصري، والأكثر استماعاً للأغنيات البعيدة عن التكلف، حاملين معهم الأغنية الشعبية، بعدما كانت حكراً على فئات بعينها. حتى في موسيقى الأغنية ذاتها، طرأ تغيير في الكلمات والإيقاع، إذ تحولت من سرد قصص الحب والعشاق، وطابع الموال ورِتمِه البطيء، إلى سرد حكايات الناس وأفراحهم، مع عزف أكثر سرعة ومواكبة للتغيير. في شهيرته «زحمة يا دنيا زحمة»، يصف أحمد عدوية الشكل الجديد للحياة، بل ويصنع بما يتلوها من أغنيات شكلاً خاصأ به، ميّزه عمن سبقه كمحمد رشدي، الذي حملته كلمات «الخال» (عبدالرحمن الأبنودي) طابعه المائل إلى الموال المستوحى من الفولكلور الصعيدي المتوارث، بينما ابتعد عدوية عن الفولكلور تماماً. بكلمات جديدة، وروح شغوفة، تأصّل عدوية كبداية للغناء الشعبي المتعارف عليه. ويمكن القول إن تلك النقلة بين رشدي وعدوية هي أحد اشكال الانتقال الذي شهدته مصر من الاشتراكية إلى الرأسمالية حينها. بدأ عدوية الغناء في الأحياء الشعبية كالباطنية، وغيره، ومثّل في عدد من الأفلام، مقدماً الأغنيات والمووايل بمصاحبة راقصات على موسيقاه، أبرزهن سهير زكي. في السنوات التالية، ومع استمرار بزوغ ولمعان نجم عدوية على عرش الشعبيات، ودخول فترة الثمانينات المصحوبة بالغلاء وصعوبة المعيشة، ظهرت الكلمات الأكثر حزناً والأكثر سرداً للمعاناة عن الفرح. لا يغفل عن تلك الحقبة أغنية «كتاب حياتي» لحسن الأسمر الذي شارك في عدد من أفلام المقاولات، ومسرحيات عدة، ليبقى دوره في مسلسل «أرابيسك» الأكثر رسوخاً. انفصلت الأغنية الشعبية بعد ذلك عن الموال، وإن عادت إليه بين الحين والآخر، وظهر التوزيع الغربي الجديد في الأغاني المصرية، ولم تفلت منه ساحة الأغنية الشعبية، حيث تعاون حميد الشاعري، مكتشف النجوم والمقدم لهم بصور جديدة وألحان وأفكار عصرية، مع حكيم الذي قدم الأغنية الشعبية الراقصة السريعة، مستعيناً بتوزيع أقل شرقية. حكيم الذي غنى مع النجم العالمي جيمس براون، وأحيا حفل توزيع جوائز نوبل عام 2006، كان الشكل الأكثر قبولاً من المطربين الشعبين، بين الأوساط الأكثر ابتعاداً عن الجو الشعبي. منحى التغيير والتجديد الكبير، وظهور الإنترنت سارعا في دمج الأغنية الشعبية في عالم الأغنية المصرية، وفي بداية الألفية كانت ظاهرة «شعبولا» (شعبان عبد الرحيم) الذي غنى للبديهي والمألوف، فغفرت له عفويته ضعف صوته وكلماته، وكتبت عنه صحف عالمية بعد أغنيته الأشهر على الإطلاق «أنا بكره إسرائيل». في فترة ما بعد ال 2000، قُسّمت الأغنيات إلى شبابية وشعبية، وسرعان ما أُعيد التقسيم وأُضيفت الأغنية ما دون الشعبية، التي لم تعد تروي الحكايات ولا القصص، وأضحى «الإفيه» الذي يلتقطه الناس مميزها ك «العنب»، لعماد بعرور، وأغاني سعد الصغير، وألحان مكررة يمتلكها الإيقاع. في حكاوي عبدالباسط حمودة ومحمود الليثي، وآخرين، بعض من العودة للأغنية ذات القصة والعبرة، حيث اشتهر الأول ب «أنا مش عارفني»، والثاني بمدائحه وكلماته ذات العربية الركيكة. وكان من علامات المرحلة ظهور ال «توك توك»، وسيلة المواصلات، كناقل جديد للأغنية الأكثر شعبية، التي لن تسمعها في الإذاعة، واشتهار مصطفى كامل بوصفه «مغني السواقين»، وظهور لقب «مغني التوك توك»، للمغني الشعبي الذي لا يعرفه سوى قائدي ال «التوك توك» وركابه. «المهرجانات» أيضاً فن لم يُعرف له تاريخ في الأغنية الشعبية. ويعرّفها مقدموها على أنها تقديم شعبي على خلفية موسيقية غربية، بنغم متكرر لجملة شرقية. كانت سهولة صناعة «المهرجان» مساعدةَ له على الانتشار، ومقدمة له كواقع للأغنية الشعبية الحديثة، وواضعة مغنّيه ك «أوكا وأورتيجا»، وال «مدفعجية» في مصاف نجوم الأغنية الشعبية المعاصرين .