تتكرر في لبنان بين الحين والآخر دعوات الى الغاء الطائفية السياسية. ومع ان الغاءها كان ولا يزال حلم قسم كبير من اللبنانيين، خصوصاً الشباب، ودفع الكثير منهم حياته ثمناً له في بدايات الحرب الاهلية في سبعينات القرن الماضي، فإن هوية بعض الذين يدعون اليوم الى الغاء الطائفية وانتماءاتهم ومواقعهم تجعل منه شعار حق يراد به باطل، وتلقي شكوكاً على مقاصدهم. هذه الدعوة التي يوجهها البعض عن حسن نية ورغبة في الارتقاء بالبلد الى مصاف الديموقراطيات والدول المتحضرة، يطلقها البعض الآخر بخفة وعن سوء قصد يرمي من ورائه الى ممارسة ضغوط سياسية على الفئة اللبنانية التي تشعر بتهديد متعاظم لدورها، اي المسيحيين، علماً بأن كثيرين من هؤلاء لا يمانعون في اخراج وطنهم من المأزق الذي تمثله الطائفية السياسية وفشلها المتكرر في حماية صيغ التعايش، في حال تمت مقاربة المسألة بطريقة مدروسة ومنهجية تساوي بين جميع المكونات الاجتماعية، وشرط ان لا تستبدل خللاً بآخر او تستغل الفرصة لفرض سيطرة طائفة واحدة على ما عداها. يعرف مطلقو شعار الغاء الطائفية السياسية على اختلاف اغراضهم ان الأمر لا يتم بمجرد إزالة خانة الدين من هويات اللبنانيين ولا بتحالفات ظرفية عابرة للطوائف تخدم مصلحة هذا الطرف او ذاك الحزب، فالقضية أعمق بكثير وجذورها تمتد لمئات السنين، ويحتاج علاجها الى جهد دؤوب يشمل مختلف نواحي حياة اللبنانيين والى نقاش مستفيض تشارك فيه شرائحهم كافة لتحضير الاجيال المقبلة تدريجاً للقبول بفكرة المواطنة وتغليبها على الانتماءات الطائفية والمذهبية وخصوصاً تلك الممتدة الى خارج الحدود. جهد يشمل المناهج المدرسية وكتب التاريخ والتعليم الديني وتربية الاطفال في المنزل وتعويدهم على فكرة وجود جار مختلف وزميل دراسة مختلف، وتركيز على فكرة دولة القانون والمؤسسات ومبدأ نهائية الوطن وسيادته. فهل هذا ممكن اليوم؟ الجواب سلبي بكل بساطة. فالذين يتذكرون او يتم تذكيرهم بأن عليهم المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية، ومعظمهم يدين بالولاء لجهة اقليمية لصيقة بالشأن اللبناني، انما يفعلون ذلك كلما أحسوا بازدياد الممانعة المسيحية لمشاريع الهيمنة والمحاور والأحلاف وتمسك المسيحيين بالسيادة ودفاعهم عنها، وفي هذا الاطار يمكن فهم الحملات على البطريرك الماروني والدعوات الى الأخذ بالاكثرية العددية والتلميح الى المثالثة بدلاً من المناصفة. وكأن هؤلاء يريدون القول للمسيحيين: انكم اذا لم تخضعوا للسياسة التي نرسمها وتقبلوا بالحيز الذي نخصصه لكم فيها، فسنسعى الى تقليص دوركم بعدما قلصت الهجرة عددكم، والى الغاء خصوصيتكم وتفردكم، واقلاق طمأنينتكم المهتزة اصلاً والتعتيم على مستقبل اجيالكم. اذا كانت الطائفية السياسية تعكس مشكلة هوية عند اللبنانيين لم تنفع صيغة اللاءين الشهيرة (لا اسلامية للمطالبة بالوحدة العربية ولا مسيحية للانتماء الى الغرب) في حلها، ولم يستطع اتفاق الطائف رغم الاجماع عليه ان يرسي بدايات الطريق الى تجاوزها، فهل يمكن الغاؤها اليوم في ظل وجود طائفة مسلحة تتمسك بسلاحها وتراهن عليه لتدعيم وجهة نظرها ومرجعيتها في الشأنين الداخلي والخارجي؟ وكيف يمكن لمن يرتبط بأجندة ومصالح ومواقع طائفية ان يتحول فجأة «علمانياً»؟