استطاعت الفنانة المصرية فاتن الدسوقي الخروج بأعمالها من السياقات النمطية للإطار الزمني الصارم، والشكل التقليدي المحدود للمكان، فابتكرت فضاءات عملت فيها على تحرير التناقضات الفعلية للعديد من العناصر التي قد تكون فارغة تماماً من المعنى، قبل إعادة تجميعها وتحويلها إلى قضايا لها علاقة بالثورة والإبداع والعفوية. وفي معرضها الأخير «انظر بالداخل» الذي افتتح في معهد غوته الألماني في الإسكندرية، تواجه أعمال فاتن المركبة المتلقي بحضورها الفيزيائي الطاغي، فقد انتزعت موادَّ وعناصر بصرية مألوفة من سياقها، وأعادت توظيفها فحققت تأثيرات مضللة في أعمال بدت مكتملة على رغم تذبذبها البصري أو الملموس أو كليهما. توضح الفنانة الشابة (28 سنة) التي تنخرط في ممارسة مفاهيمية، تصنع من خلالها أشكالاً مبتكرة على رغم بساطتها، أن أعمالها تتيح تشكيل قضايا يتعذر استخلاص أي نتيجة منها، إلا أنها تُحدث في تخيلنا نوعاً من صور ذهنية. ومثال على ذلك، التأكد من إمكان وجود كون آخر، إلى جانب كوننا، لا يرتبط بالثاني بوجه من الوجوه، ولكنه يُنجب في فكرنا نوعاً من التصور الذهني. ثمة علاقة فيزيائية بين المشاهد وبين أعمال فاتن الدسوقي التي تجعله متنبهاً لوجوده في حضرة العمل. تقول فاتن: «إن ما تراه عيناك هو ما تراه، يمكن إشراك كل الحواس في تلك التجربة. الخامات والزخارف المألوفة من الحياة اليومية المصرية يعاد وضعها أو تحجيمها إلى تأثيرات مربكة لها وجود فيزيائي، بصري وحسّي قوي». وتضيف: «أصبحت الثورة ضد الواقع تجنباً له، ففي لحظة معينة من حياتي قررت التوقف عن محاولة جعل أعمالي معقدة، ولكن لا تزال بين الحين والآخر لدي أفكار يصعب التعبير عنها بطريقة بسيطة». وترى فاتن أن أعمالها تسعى لإيصال الأفكار باستخدام حلول بسيطة، لا تحتاج إلى تفسير. فالمواد والعناصر التي تستخدمها قد لا تعني شيئاً وهي منفردة، لكن ارتباطها بالسياق الذي طُرحت فيه ومساءلتها إياه يضمنان قيمة العمل. أحد أجزاء المعرض وضعت فيه فاتن زلاجة حمراء امتدت من السقف الى الأرض، لتعبر عن مرحلة من حياتها كانت فيها في قمة النجاح والتألق، وفجأة تهاوى كل شيء. جزء آخر من المعرض وضعت فيه صندوقاً مستطيلاً ضخماً أصفر، يصل الى منتصف الخصر حيث يمكن المتلقي لمسه والجلوس عليه، وبالفعل جلس عليه أحد الحضور فاعتبرت فاتن ذلك مداخلة فنية تفاعلية بين الجمهور وما تقدمه. وفي جزء آخر، وضعت فاتن نبتة تمتد منها فروع شجرة ضخمة تصل الى سقف القاعة، وتحيط الفروع بإحكام مربعات من الخشب الرقائقي (أبلاكاش)، ويثير التكوين معاني الكبت البصري والاغتراب المكاني. أحد أجزاء المعرض تتدلى منه ثريا مضاءة طمرت في أجزائها السفلى بمياه من المجاري وتتساقط منها قطرات من مياه المجاري الآسنة والمحملة بقاذورات الطريق. تقول فاتن: «شعرت بأنه يمكنني التعبير عن نفسي من خلال الثريا التي وضعت في غير مكانها، فالثريا وضعت في مياه المجاري وفي وحل الشارع، وهذا المكان الذي يفسد جمالها ولا يظهر جمال ضوئها وتأثيره». وعن الجرأة التي طرحت بها فكرتها والتي قد تبدو للبعض موضع تقزز أو نفور، تؤكد فاتن أن الصدمة هي أجمل ما في الفن المعاصر. وتقول: «على الفن أن يتوقف عن أن يكون تحويلاً متخصصاً وتخيلياً للعالم، عليه أن يكون تحولاً فعلياً للخبرة المعاشة نفسها». وتضيف: «الجهل بهذه المحاولة لإعادة خلق طبيعة الإبداع نفسه، جعل كل تطور الفن المعاصر مشوشاً ومختلاً وغامضاً». وترى فاتن انها من خلال المعرض ترسم لنفسها بورتريه شخصياً، ففي داخلها كثير من الفن والجمال، ولكن لا تجد من يزيل عن نفسها صدأ الإهمال ووحل الزمن حتى يظهر أصالة ما تحمله في داخلها من فن. واللافت في المعرض، طغيان الصفة الشخصيّة على مفهوم العمل بذاته، وهو ما جعله غير ناجح في محاورة الجمهور.