منذ أن انخفضت حدة الاقتتال الطائفي في العراق، حاولت السلطات إزالة آثار العنف. وفكرت في أن تغيير المكان وجعله «براقاً ونظيفاً»، كما تفيد الإعلانات البلدية، سيكونان كافيين لتجاوز صور الدمار في أزقة بغداد. لكن الطريقة التي جرى فيها تحسين «المكان البغدادي»، وصوره في الأقل، جعلته أكثر عنفاً واضطهاداً للعلاقة البصرية التي تربطه بالأفراد. الناشطة والباحثة العراقية، شروق العبايجي، وضعت، أخيراً، في حسابها على «فايسبوك» صوراً لبناية ساعة القشلة التراثية في وسط بغداد، وقد شوهها عمال البلدية الذين يشتغلون في مشروع «صيانة وترميم المواقع التراثية». وتقول العبايجي ل «الحياة» إن «البناية التراثية تتعرض لأبشع عملية تخريب (...). من فعلها قبلهم؟ أي عقل يجرؤ على تغطية أحجار تراثية بألواح قبيحة» مصنوعة من مادة بلاستيكية رخيصة؟ وتساءلت: «أليست هذه جريمة بحق بغداد؟». وسرعان ما وجدت صور الناشطة ردود فعل غاضبة على إدارة مشروع الترميم. ومن بين تلك الردود ما يعتقد أن الخلل في إظهار مرافق بغدادية بهذه الطريقة يعود إلى «قلة خبرة المؤسسة الثقافية الرسمية» التي سجلوا عليها «تراجعاً في قيم الجمال، حين تخطط لمشاريع حماية المواقع الأكثر أهمية في العاصمة بغداد». و «القشلة» أقدم ساعة في بغداد، وأراد من شيّدها، وهو والي بغداد نامق باشا، في القرن الثامن عشر، أن تضاهي ساعة «بيغ بن» في لندن، حتى أن خلفه الوالي مدحت باشا أنشأ حولها أبراجاً مرتفعة، وجعل الساعة بأربعة أوجه. وحين دقّت الساعة في القشلة للمرة الأولى، وسمع صوتها في الأحياء القريبة، أقام سكان بغداد احتفالاً في عام 1869. وشهدت ساحة «القشلة» تتويج أول ملك للعراق في العصر الحديث، هو فيصل الأول بن الحسين في 23 آب (أغسطس) 1921. وكلمة القشلة تركية الأصل، وتعني المكان الذي يمكث فيه الجنود أو الحصن أو القلعة. وكان الجمهور حصل، أخيراً، على فرصة التجوال في قصر «الرحاب» الملكي، حيث ساعة «القشلة»، منذ أن دشنت بغداد مشروع «عاصمة الثقافة العربية»، لكن قلةً اكترثت لمشهد تخريب الواجهات التراثية لساعة القشلة وبنايتها بمواد لا تصلح للعمارة. ويقول عادل اللامي، وهو ناشط مدني وخبير في القانون، إن «الشكل المشوه الذي ظهرت به بناية القشلة بعد تغطية قطعها التراثية بمواد رخيصة، يعد اعتداءً على رمز تاريخي». ويضيف ل «الحياة» أن «ما يحدث في القشلة الآن أشبه بمن يوجه مدفعاً رشاشاً ويثقب قطعة تاريخية (...). كان من المفترض أن تحصل البناية التراثية على الصيانة، لا على التخريب». والحال، أن الكثير من المباني التراثية ذات القيمة الثقافية تعرضت خلال السنوات الماضية للهدم والتخريب والإهمال، بينما تناوب مثقفون عراقيون على إطلاق حملات لحماية البنايات التراثية، لكنهم يقولون إن نداءاتهم تذهب سدى. لكن ما حصل من اهتمام ببناية «القشلة» قد يكون متأتياً من الظرف الذي فرضه أهم حدث ثقافي في البلاد منذ عام 2013، وهو انطلاق مشروع عاصمة الثقافة العربية هذا العام. في حين تضيع أبنية تراثية من دون أن يلتفت إليها كثيرون، ولا تصل إليها إعلانات الرعاية الحكومية عن المشروع الثقافي العربي.