في الوقت الذي كانت تجري «أحداث» صيدا، قبل أسبوع، كان موظفو «مستشفى رفيق الحريري الجامعي» الحكومي يضربون، وتعلن إدارته إغلاقه إلا أمام الحالات الطارئة القصوى. وكان تلازم الحدثين عرضياً، فلا صلة بينهما. حقاً؟ بل الوشائج بينهما متينة جداً، لكنها دفينة. فلن نقع على مثال أفضل لإيضاح كيفية اشتغال مجمل النظام القائم في لبنان، حيث ترتبط الطائفية حكماً بوهن الدولة بكل مؤسساتها، ويستعصي إيجاد حلول لأي أمر مهما كبر أو صغر، وتعتبر معطيات كسوء الإدارة أو الفساد، عادية. فكأنما يُدفع الناس دفعاً ليلوذوا، جميعاً، بالحضن الدافئ لطائفتهم وزعمائها، القدماء والمتجددين، بينما يُترك المجال كله للمبادرات الفردية والخاصة، وهي في غالبيتها ذات طابع طائفي منذ نشوئها، أو تكتسبه بسرعة مع الممارسة. الجيش اللبناني هو المؤسسة الدولتية الأولى في البلد، لأنه الأوسع والأكثر تماسكاً في البناء والأشد صلة معمّمة بالاجتماع اللبناني، وهو الأهم بحكم إدارته للتوتر العنيف على الأرض في مجمل البلاد، بالتراضي تارة وبالحزم تارة أخرى، وبمزيج منهما في غالبية الأحيان. وفيما كان يُحاصر ويُقتحم «المربع الأمني» للشيخ أحمد الأسير كان الخوف الأكبر يتعلق بخطر تسبب ذلك في تصدع الجيش على أساس طائفي (وهو تعبير يشمل هنا ذاك الآخر الذي يسمى «مذهبياً»، إشارة إلى وقوع المشكل بين مذاهب من الطائفة ذاتها). خوف يتجدد كلما «أُقحِم» الجيش في الميدان الداخلي. وبالنظر إلى السرعة الكبيرة في انقضاء ما جرى في صيدا، وإلى كاريكاتورية شخصية الأسير ومقدار الافتعال في ظاهرته، مرّ الأمر بسلام! غطت تلك الأحداث بالطبع على أزمة «مستشفى رفيق الحريري الجامعي في بيروت». والاختصار في التسمية لاحقاً «بريء»، لا يقصد إسقاط اسم الرئيس الحريري الذي افتتح هذا المستشفى في 2004، بل تيسيراً للكتابة. ذلك أن المشكلة تبدأ من هنا، من اتهام بعض لآخرين في لبنان (وكلهم نواب ووزراء) بأنهم يتآمرون على المستشفى لحذف اسم الرئيس الحريري منه. ولكن، لو كانت تلك هي العقدة لهانت. فالمستشفى إياه صرح طبي بكل معنى الكلمة، استقبل مثلاً المصابين بالحروق الكبيرة أثناء عدوان 2006 الإسرائيلي على لبنان، لكونه الأقدر على معالجتها، رغم اشتهار بيروت بمستشفياتها الخاصة العملاقة. وهو يوفر عدا الطبابة الاختصاصية الممتازة، التدريب لطلاب كليات الطب في جامعات منها، بل على رأسها، الجامعة اللبنانية (المؤسسة الجامعية التعليمية الحكومية الوحيدة في البلد مقابل ما يربو على 35 جامعة خاصة، بينها المعترف بها عالمياً، وبينها أيضاً ما يقال له «دكاكين» في إشارة إلى سوء حاله). وأما الطبابة التي يوفرها فبأسعار زهيدة، في متناول الشرائح الأفقر في البلد، وهي غالبية ساحقة. يفترض ذلك أن المستشفى لا يمكنه تغطية نفقاته، التي يفترض (أيضاً) أن تتولاها موازنة الدولة التي اختارت تسييره وفق «سُلَف خزينة». وهكذا فأزمة المستشفى تتكرر سنوياً منذ إنشائه، وتُدوّر من عام إلى آخر، فتتراكم وتصبح أكثر استعصاء. وهو اليوم يعاني من عجز مالي هائل، يتسبب في عدم تجديد تجهيزاته، وعدم حصوله على التوريدات الطبية التي تلزم لاشتغاله، والتأخر في دفع أجور موظفيه الذين يربون على الألف، عدا الأطباء الاختصاصيين وهم حوالى 400. بينما يشار في الوقت ذاته إلى سوء الإدارة، بل الى فساد مالي وإداري، يُترك هو الآخر يتفاعل ويتفاقم بالتي هي أحسن. في المستشفى 400 سرير، وفي كل المستشفيات الحكومية في لبنان (22 مستشفى بعضها اقرب الى المستوصفات) 1500 سرير، بينما عدد أسرَّة المستشفيات الخاصة 11 ألفاً. ولا تتعامل المؤسسات الخاصة الضامنة (شركات التأمين الصحي) مع المستشفيات الحكومية ومنها المستشفى الجامعي، لذا تقع كلفة الاستشفاء برمتها على كاهل المريض وكاهل المستشفى، أي الدولة. والمستشفى الجامعي في بيروت يعالج ما يفوق 20 ألف مريض في السنة في أقسامه الداخلية، ومئة ألف في أقسامه الخارجية. أما عجزه المالي الحالي فقد بلغ 90 بليون ليرة لبنانية (نحو 60 مليون دولار)، تراكمت عبر التدوير السنوي. ونصف من يُعَالج في المستشفى، أو أكثر قليلاً، من بيروت وضاحيتها الجنوبية، بينما الباقي من سائر المناطق. ويبدو هذا المشفى غريباً في بلد فيه مستشفيات خاصة كبرى يدخل إليها المرضى الميسورون، وتساهم في تغطية كلفتها شركات التأمين الخاصة، وتبرعات. بضعة منها قد يتجاوز انتماء روادها الطابع الطائفي، فلا يتوقف أحد أمام «مذهب» مستشفى الجامعة الأميركية مثلاً، ولو أن أصواتاً باتت تهمس بأن انتماء بعينه طغى في السنوات الأخيرة، فتتجه إلى «أوتيل ديو» الفرنسي الأصل، والذي يحمل بالطبع بصمة دينية منذ تأسيسه، لكنه في توزيع الخريطة السياسية- المذهبية الحالية يبدو أكثر قبولاً لدى ذلك البعض. وهذا كله جزئي في المشهد العام، إذ راحت تقوم في البلد مؤسسات طبية كبرى، أهلية وخيرية، صريحة الطابع الطائفي، تزدهر بحكم الرعاية والتبرعات التي يوفرها لها طابعها ذاك وما يستولده من دعم خارجي متنوع. ودرس هذه الخريطة، وفق نشوء تلك المؤسسات ومسارها، يصلح ليبيّن صعود بعض تلك الطوائف وتقهقر بعضها الآخر. المستشفى الحكومي الجامعي فكرة تناقض كل ذلك: توفر استشفاء جيداً وزهيد الثمن في بلد الخصخصة بامتياز، وتعْبر الطوائف... مبدئياً. إذ ثمة فقراء يستهولون التوجه إلى بئر حسن حيث المستشفى، وهي ضاحية قريبة من بيروت، يفترض أنها اختيرت لسهولة الوصول إليها من كل الجهات، حيث تلتف حولها شبكة طرق سريعة. كان ذلك من دون حساب ما لاسم المستشفى الذي يناكفه موقعها، ثم تناكفه حسابات التوازنات في التعيين فيها، من الرأس حتى أبسط عامل، وفوق كل ذلك تناكفه غرابة قيام مؤسسة «عامة» في بلد تعتاش الطائفية فيه وتتجدد من تقاسم السلطة والثروة، التي تفترض زبائنية معمّمة بين الناس، لا يفلت منها أحد، وتنفجر حتماً في صراعات دموية بين حين وآخر.