أصاب الكاتب السوري ياسين رفاعية في اختيار عنوان كتابه الجديد «سوريّو جسر الكولا»، لكنه لم يصب تماماً في جعله رواية كما يشي الغلاف. فالكتاب الذي يتناول قضية العمال السوريين في لبنان، وهي قضية غاية في الفداحة والمأسوية، بدا اقرب إلى النص «التجميعي» الذي يقدم نماذج من هؤلاء العمال الذين يعرف الكاتب بعضهم عن كثب، وبعضهم من خلال الصحف والمرويات الشفهية. مادة الكتاب مهمة جداً وإن لم يُتح لها أن تكتمل روائياً أو سردياً. وقد وضع الكاتب إصبعه على جرح عميق لكنه لم يستخرج منه إلاّ النزر القليل من الدم، وغالب الظن أن قضية هؤلاء العمال الذين «هجّرهم» النظام السوري إلى لبنان، هي من القضايا المثيرة التي تشكل حافزاً على الكتابة والإبداع عموماً. لا يُقرأ كتاب ياسين رفاعية إلا بصفته شهادة سردية عن العمال هؤلاء، ومعاناتهم اليومية والإنسانية والسياسية. ولئن سعى الكاتب إلى إبراز بعض الأشخاص، فهو لم يخضعهم لسياق روائي أو سردي، فظلوا أشخاصاً ولم يصبحوا شخصيات، مثلما ظلت الأحداث مجرد مرويات أو «خبريات» ململمة من هنا وهناك، من الصحف وبيانات المؤسسات التي تُعنى بحقوق الإنسان. وهذه الأحداث والمرويات كانت تحتاج فعلاً إلى صهر ونسج في بنية سردية فلا تتبعثر وتضيع. وإذا أمكن القارئ أن يوافق الكاتب على أن خالد -على سبيل المثل- هو أحد «أبطال» هذا النص، فهو ليس سوى شخص هامشي في المعنى السردي على رغم موته المأسوي في الختام، والسبب ليس لأنه يعمل ناطوراً في بناية، بل لأن الكاتب يدفعه في النص، إلى موقف ساذج يشبه المواقف التي ترتأيها المسلسلات التلفزيونية الكوميدية الهزيلة. فهذا الناطور الفقير يقع - يا للمصادفة المضحكة - في حب ابنة صاحب البناية الثري، «الحريري» الانتماء، وينتهي به حبه إلى أن يكون «حمّالاً» في عرس هذه الفتاة التي لم تعره يوماً التفاتة، فيحملها في الزفة على كتفيه ويجول بها على المدعوين الأثرياء. أما الانتصار الوحيد الذي يحققه فهو شعوره بسخونة فخذيها على رقبته. ولا أحد يدري من أين أتى الكاتب بهذا الموقف الذي يستحيل تصديقه في مجتمع ثري مثل هذا المجتمع الذي يفرط في البذخ في مثل هذه المناسبات: «رَكِبتْه كما تركب مصرية جملاً ذا سنامين، الدفء الذي أحس به لحظة حملها كأنه لا يزال يشعر به حتى الآن، رائحة ملابسها الداخلية...». غرابة المشهد أما المشهد الثاني في الكتاب الذي لا يقلّ غرابة عن المشهد هذا، فهو إقدام الشاب السوري محمد على قتل الشاب اللبناني الذي اغتصب شقيقتيه، فاطمة وعائشة، وقتلهما مع رفاق له. فالشاب لم يجد الفرصة لتنفيذ انتقامه إلاّ خلال عرس الجاني، وفي حضور جمع كبير من السياسيين والوجهاء الذين أمّوا قصر البيك الوجيه أبو محمد الذي كان أنقذ ابنه من الجريمة التي ارتكبها. لكنّ المرافقين سرعان ما أطلقوا عليه النار وأردوه بعدما نفّذ انتقامه. هذا ضرب من البطولة التلفزيونية الساذجة الذي لا يمكن تصوره واقعياً، بخاصة أن الشاب السوري هو جامعي وغير متمرس في أفعال القتل. واللافت أنه عرج حين مجيئه من سورية على بلدة عرسال البقاعية (السنية) ليحصل على السلاح ويتمرن على إطلاق النار. ويبدو الكاتب أيضاً غير ملم بجو بيروت الجديد الذي صنعه شبابها، فهو أخطأ كثيراً في كلامه عن حي الجميزة وحياته الليلية الصاخبة رقصاً وتعتعة. فمن المستحيل أن يأتي والد سوري بابنتيه إلى هذا الشارع الذي ليس هو بمبغى أو سوق دعارة، ليتقاضى ثمن ممارستهما البغاء. إنّ في هذا الأمر مبالغة غير مقبولة، وكان في إمكان الكاتب أن يبحث عن مثل هذه الأعمال في أماكن أخرى، مشبوهة و»سفلية» وخاضعة لحكم مافيات الدعارة. لعل أهم ما في الكتاب هو تقديمه نماذج من العمال السوريين الذين أموا ويؤمّون لبنان، هرباً من جحيم النظام الديكتاتوري ومن نار البطالة والفقر والجوع والقهر والذل. لكنهم ما إن يصلوا إلى لبنان حتى يكتشفوا وجهاً آخر من القهر والظلم. لقمة العيش التي تتوافر لهم هنا ليست خلواً من التعب والشقاء، بل هي مغمسة بالألم والدمع في أحيان. لكن الإقامة في لبنان تظل أرحم من البقاء في ظل القبضة البعثية. وإن كان العمال السوريون سابقاً قد عرفوا فترات من الاستكانة والعمل الكريم، فهم لم ينجوا من لعنة الحرب الأهلية التي كان للنظام السوري دور فيها بدءاً من العام 1975 حتى مقتل الرئيس رفيق الحريري. احتل النظام السوري لبنان بذريعة حمايته من الاقتتال الأهلي ومن إسرائيل، ومارس فيه أنواعاً شتى من القمع والقتل والاغتيال والسرقة والنهب حتى خرج النظام ذليلاً ومكسوفاً و«مهزوماً» ولو معنوياً. عمال شباب، طلاب جامعيون، أساتذة مدارس، مزارعون، حرفيون... هربوا جميعاً من حصار الذل البعثي وقصدوا لبنان، بحثاً عن فرص عمل تتيح لهم العيش بكرامة وتساعدهم في توفير مدخول ولو ضئيل لعائلاتهم. كان هؤلاء يظنون أنّ بيروت هي «عاصمة الدنيا»، وأن لبنان هو «الجنة» كما يعبر ياسين رفاعية، لكنّ خيبة معظمهم كانت كبيرة. وما زاد من مآسيهم أنهم وقعوا ضحايا حقد اللبنانيين على النظام السوري، علماً أنّ لا علاقة لهم به، ما عدا بعض موظفي الاستخبارات الذين زرعهم في لبنان، في مناطقه كافة وفي قلب دولته وأجهزتها. وقد أخطأ بعض اللبنانيين حقاً في تعاملهم مع هؤلاء العمال الأبرياء، وفي جعلهم «أضحية» للانتقام من النظام ومن قوات الردع ومن الجيش السوري الذي دمر لبنان وقصف مدنه وقراه، والانتقام أيضاً من «البشوات» البعثيين الذين نهبوا لبنان وأذلوا الكثيرين من زعمائه وأرغموهم على محاصصتهم في الثروات المنهوبة، وأجبروهم على سلوك طريق الشام ذهاباً وإياباً. عناصر من أحزاب لبنانية عدة اعتدت على العمال السوريين، أحزاب اليمين وأحزاب الطوائف. ولم ينثن الكثير من المواطنين في كل المناطق عن أن ينتقموا من النظام عبرهم. وعندما قتل الحريري زادت أعمال الاعتداء في ما يشبه رد الفعل الأعمى. وأخيراً بعد وقيعة خطف لبنانيين شيعة في أعزاز، امتدت إلى العمال السوريين أيدي بعض مناصري النظام في الضاحية الجنوبية التي يسيطر عليها حزب الله وحركة أمل، وكذلك في الجنوب والبقاع. الجميع اضطهدوهم، من دون أن يميزوا بين هوياتهم أو انتماءاتهم، وكأن السوري هو سوري، أكان مع النظام أو ضده، والانتقام هو الانتقام بلا وعي ولا رحمة. كان من الطبيعي أن يلجأ ياسين رفاعية إلى بعض التقارير التي رُفعت عن الأوضاع اللاإنسانية التي قاساها العمال السوريون والمواطنون السوريون عموماً لا سيما الفقراء منهم وليس الأثرياء الذين تمّ الترحيب بهم في الفنادق والمطاعم. فالكاتب كان حذراً في تناول هذه القضية الإشكالية سياسياً ولم يجرؤ على كشف أسرارها وخفاياها، فرمى الجزء الأكبر من هذه الظاهرة على عاتق المناطق المسيحية والسنية ولم يتطرق إلى ما تعرض له السوريون في الضاحية إلا لماماً، مركّزاً فقط على ما نجم عن قضية أعزاز، وهو لم يفته أصلاً أن يمتدح «المقاومة» (حزب الله) أكثر من مرة في ما يشبه أداء الواجب، علماً أن «المقاومة» تقاتل اليوم إلى جانب النظام الديكتاتوري وتقصف المدن والأرياف السورية. قد يكون عنوان كتاب ياسين رفاعية هو أجمل عنوان يمكن اختياره لكتاب عن العمال السوريين في مأساتهم اللبنانية. فالجسور في بيروت وضواحيها، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، والتي كانت طوال الحرب اللبنانية حيزاً للخطف والقتل، باتت اليوم مرتبطة بهؤلاء العمال: جسر الكولا وجسر فؤاد شهاب وجسر المطار وجسر الدورة وجسر جل الديب وجسر انطلياس... هذه الجسور تحمل اليوم من القصص السورية المأسوية ما يكفي لكتابة روايات. إنها الأمكنة التي تدور في ظلالها قصص العمال السوريين، قصص العمل والنوم والجوع والانتظار... إنها اللاأمكنة التي تشهد على حياة مواطنين لا تشبه الحياة في أيّ وجوهها.