لا يملك الشاب الموصلي ما يفعله عندما تحاصره سيارة «داعشية» رباعية الدفع، غير الاستسلام لقدره، ثم ربما التفكير في نوع الموت الذي سيلقاه، ذبحاً بالسكين أو رمياً بالرصاص أو شنقاً. بل أحياناً يفكر في مصير جثته، فهل ستُعلق في ساحة عامة، أم تصوّر بعد فصل رأسها عن الجسد، أم تلقى للكلاب السائبة، أو يتم التخلص منها بإلقائها في النهر. كل تلك الأفكار مرت في مخيلة الشاب محمود الموصلي، وهو يستسلم لأيدي الإرهابيين الخشنة وهي تعصب عينيه وتقوده إلى معتقل تحت الأرض لسجن كانت تستخدمه الاستخبارات العسكرية سابقاً. كان ذلك في منتصف أيلول (سبتمبر) عندما رفعت العُصبة عن عيني الشاب الموصلي فوجد نفسه في غرفة فارغة وفي أجواء مرعبة تماماً. قال ل «الحياة» «لا أحد يتحدث معك وعيون الحراس كانت كأنها عيون ضباع تنتظر أن تلتهم فريستها». بلهجة بغدادية بدأ المحقق الأول استجوابه: «لماذا تكره الدولة الإسلامية؟... لماذا تتطاول على الخليفة؟». تهمة كافية جداً للإعدام، لا تشبه ما كان يردده أهالي الموصل خلال السنوات الماضية عن قانون «4 إرهاب»، الذي خرجت بسببه التظاهرات السنية، ويطلق عليه زعماء عشائريون ودينيون «4 سنة». «لكن 4 بغدادي أكثر رعباً، وليس من ضمن عقوباته السجن، فهو يقود إلى الموت لا محالة» هكذا يردد محمود في سره، ويحاول تجاوز رعبه حين يجيب على أسئلة المحقق. غير أن ذلك لم يكن يكفي، فأحاديث السجناء عن «حفلات التعذيب الليلي» حوّلت رعبه إلى نوع من اليأس. كانت جريمة الشاب الموصلي أنه استرسل في الحديث مع سائق سيارة أجرة عن شناعة الأعمال التي قام بها «داعش» في الموصل، مثل سبي الإيزيديات وتهجير المسيحيين وقتل الشيعة والسنة. وقال: «لم أكن أتصور أن التنظيم يملك قدرات استخبارية وعيوناً في كل مكان في الموصل. سمعت عن أحداث في مناطق مختلفة تسبب بها وشاة، لكن مع دخولي إلى سجنهم اكتشفت أن كل السجناء اقتيدوا بناء على تهم كيدية». وأضاف أن «داعش» يملك قاعدة بيانات عن السكان يمكن أن تقارن بتلك التي كان يملكها نظام صدام حسين. «حين اجتمعت للمرة الأولى مع سجناء، قال لي أحدهم سراً، لا تكذب، قل الحقيقة فقط، لأنهم يعرفون عنك أكثر مما تتصور، وسيستخدمون أي كذبة لتبرير قتلك». وتابع: «بالفعل عملت بالنصيحة ووجدت أن تاريخي وتاريخ عائلتي وطرق تحركنا وأعمالنا وكل ما نملك مقيدة لديهم في سجلات خاصة، يحدق فيها المحقق (الحجي) قبل أن يسأل وبعدما أجيب». وقال: «ضباط سابقون ومعتقلون بتهم التدخين أو شرب الكحول أو التجاوز على داعشي، كانوا يتعرضون لتعذيب يومي، بل لعمليات نحر يومية». أسبوع من التحقيقات تبين أنه مجرد بداية لجس النبض، وأن التحقيق الحقيقي يقوم به «أبو فاطمة» أو «الحجي» وهو قيادي يرتدي الملابس والعمامة السوداء، ويحمل رشاش «لادنية»، نوع «كرينيكوف» روسي الصنع ارتبط باسم زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، وظهر مراراً في الخطب المصورة التي كان يبثها، يتحول اليوم إلى معيار للتركيبة الهيكلية في تنظيم «داعش»، إذ إن من يحملها يعتبر من قيادات التنظيم وينال احترام باقي المقاتلين. كان الموصلي محظوظاً، لأن لأحد جيرانه علاقات مع «داعش» وتوسط لإطلاق سراحه بعدما أقنع التنظيم بأنه «فتى مسالم لم يعرف عنه أي انتماء سياسي أو اعتداء أو إساءة أحد». وكانت شفاعته، وربما مزاج «الحجي» في تلك اللحظة كفيلين بإنقاذ رقبته بعد أسابيع من الإعتقال. لكن رقبة العقيد الركن عيسى عصمان اللهيبي، آمر الفوج الرابع شرطة محلية، لم تسلم فقد اقتيد في شوارع الموصل، وهو يرتدي «دشداشة» بيضاء، وأعدم ثم علقت جثته في ساحة في الساحل الأيسر ولا تزال معلقة حتى الآن. كما أن المصير نفسه يطارد اليوم كل منتسب الى القوى الأمنية أو الجيش أو شيوخ العشائر، وحتى من ضباط الجيش السابقين، بعد تواتر المعلومات عن عمليات اغتيال يقوم بها مسلحون مجهولون وسط الموصل ضد مقاتلي «داعش».