نتكلم على المثقف في البلاد العربية، التي تعاني من مشكلات وفيرة متعددة المستويات، من أبرزها تدهور اندماجها الوطني وتضاؤل الإجماعات الأساسية بين سكانها. وفي حين أن وفرة المشكلات توجب أن يقوم المثقف بدور في تعريفها وتحليلها واقتراح مخارج وحلول لها، وكذلك في نشر المعارف والثقافة بما يتيح لجمهور أوسع استيعاب أوضاعه الصعبة، فإن تراجع الاندماج يحمل خطر أن تتماهى قطاعات خاصة من الجمهور مع عمل المثقف أكثر من قطاعات أخرى. يحتمل أن نجد أنفسنا في الوضع الآتي: نتناول بإخلاص قضايا عامة متنوعة، مثلا ننتقد الحكم الاستبدادي، أو نبحث في قضايا الثقافة وأوضاعها، أو نتناول وضع الدين والممارسات الدينية، أو ننتقد قوى غربية وسياساتها في المنطقة، لكن نكتشف أن هناك نسقاً ثابتاً تقريباً من تلقي أعمالنا، يتمثل في أن من يتحمسون لما نقول أو يقتنعون به بسهولة محددون سوسيولوجيا بصورة ما، وأن التحديد السوسيولوجي هذا يحيل إلى هويات جزئية موروثة. هذا بينما تحظى تلك الأعمال بقبول محدود في بيئات أخرى، محددة سوسيولوجيا بدورها. وفي مجتمعاتنا المعاصرة، التي قلنا إنها تعاني اندماجاً ناقصاً، من شأن نسق التلقي هذا أن يعزز تماسك الهويات الموروثة وتصَلِّبها، فيزيد الاندماج عسرا. في هذه الحالة يجازف المثقف بأن يعمل وكيل تفكك وطني بدل ما يُتوقَّع منه ويترتب على مفهومه بالذات من كونه فاعلا وطنياً عاماً. ثم إنه يحتمل أن عمل المثقف يخضع لتوظيف قصدي في اتجاه مُصلِّب للتمايزات الاجتماعية الثقافية أو الهوياتية للمتلقين الذين يتماهون به بسهولة. هنا نخرج من التحديد السوسيولوجي لنسق التلقي باتجاه توظيف مُثبِّت بدوره لمحدداته السوسيولوجية وصانع للتمايزات الفئوية. ومن أجل تعيين التحليل نشير إلى مثال سبق أن قلنا شيئاً بشأنه في الإطار السوري. يجد نقد الاستبداد الحكومي، وهو يتمحور حول فكرة الديموقراطية وشعارها، تقبلا ميسوراً نسبياً من المتعلمين في أوساط الأكثريات الدينية، المسلمة السنية عموماً. من هذا الباب لم يجد الإسلاميون صعوبة كبيرة في استخدام المعجم الديموقراطي. بالمقابل، يتماهى بيسر مماثل متحدرون من أقليات دينية ومذهبية مع الخطاب العلماني الداعي لفصل الدين عن الدولة، أي عملياً عن الإسلام السني، الأكثري عموماً وذي المطامح السياسية المعلنة. الواقعة لا جدال فيها في ما نرى. وهي لا تفترض بحال أن الطرح الديموقراطي نشأ من أجل الاعتراض على «نظم أقلوية»، ولا أن العلمانية ظهرت لتلبية حاجة متحدرين من أقليات دينية ومذهبية إلى تثقيل وزنهم في بلدانهم ضد مواطنيهم الآخرين. الواقع أن ما حصل تاريخياً هو أن تراجع اندماج مجتمعاتنا وتنامي الوعي الذاتي الفئوي فيها يوجه، دون وعي من الفاعلين أو بنصف وعي، تفضيلاتهم نحو الأفكار والنماذج الاجتماعية التي تمنحهم موقعاً إجماليا أفضل. يمكننا القول تالياً إن الميل التفككي سخَّر فكرتين حديثتين لإدامة ذاته. هل يسع المثقفين الذين يلحظون نسق التلقي هذا ألا يبالوا به؟ وحين يحصل أن توظف أعمالهم الداعية للديموقراطية أو للعلمانية على نحو يعزز الانقسامات الأهلية، ويزودها بقيم ومعان حديثة، هل يباح لهم القول إنهم غير مسؤولين عن ذلك؟ وهل يحق لي القول إنه لا شأن لي بعمليات تماه مضادة لأغراضي المعلنة، حين لم تعد هذه العمليات خافية على أحد؟ وهل يحتمل أن منبع غفلتي هو ما يدره عليّ التماهي الأهلي المبذول من منافع متنوعة، ليس أقلها شعبية جاهزة؟ لكن هنا ألا أكون تحولتُ إلى متواطئ في ترسيخ العلاقات والبنى الطائفية وعامل على تثبيتها عبر تزويدها بالثقافة؟ هذا مسار يصعب التشكك في انطباقه على مثقفين سوريين. يجري دون ممانعة تذكر التحول من ممارسة ثقافية تنال تلقياً تفاضلياً إلى ممارسة تستجيب لطلبات خاصة، وهي بكامل الوعي بذلك. ولا يندر أن تضع نفسها قبالة ممارسات يبدو أنها تفعل الشيء نفسه، أو تقع ضمن الحقل نفسه على كل حال. لكن في محصلة هذا التحول، تمسي الثقافة ميدان حرب أهلية بديلة، ويغدو المثقفون ميليشيات منخرطة في هذه الحرب. وفي المحصلة أيضاً، لا يكاد يبقى مثقفون تلقى أعمالهم تلقياً غير تفاضلي. لكن مهلا! ألا نمارس ضرباً من التطهُّر الفكري والسياسي بتحفظنا على أن تجد خطاباتنا قواعد تلقٍ ميسورة؟ وهل يمكن توقع عتبات تماهي متساوية تماما لأية فكرة تغييرية أو ثورية؟ لكن، مهلا أيضاً، هل يمكن لما يعزز التعازل الاجتماعي، ولما يجد قاعدته في هويات موروثة أن يكون ثوريا؟ وإذا كانت العلمانية هي الحل المفترض للطائفية، ألا يعني التساهل في شأن التلقي التفاضلي لخطابها الدارج أن طوائف بعينها هي المؤهلة لتخليصنا من الطائفية؟ فضلا عن أن من شأن طرح متهافت كهذا أن يضعف شرعية الاعتراض على من قد يقول إن طوائف أو طائفة بعينها هي الحل لمشكلة الاستبداد، مما يقوله الإسلاميون صراحة. إلى ذلك فإن التفكير الديموقراطي والعلماني اليوم في أزمة لأسباب نرى أنها تتصل مباشرة بقضايا الطائفية والاستبداد والاندماج الوطني. لقد فرضت هذه التحديات نفسها على تفكيرنا منذ سنوات، ولم ينجز في حدود ما نعلم شيء ذو قيمة لمواجهتها. ولا نرى أنه يمكن تحقيق تقدم في تفكيرنا السياسي، في قضيتي الديموقراطية والعلمانية بالذات، دون توقف جدي أمام مشكلتي الاستبداد والطائفية. والمدخل إلى ذلك التنبه أكثر إلى سوسيولوجيا العلمانية والديموقراطية، أي آليات اشتغالهما الواقعية والوظائف الاجتماعية الفعلية التي تقومان بها، تمييزاً عن الوعي الذاتي لكل منهما أو شهادة كل منهما لنفسها. هذا الواقع يُلزِم بأن نأخذ واقعة التلقي الفئوي بالاعتبار، وأن ننصب حواجز تحول دون التماهي المباشر بأفكارنا من قبل جمهور ينمو وعيه الذاتي الفئوي. هل من الجدية في الشيء أن نداوم على التفكير بالديموقراطية مثلا دون اهتمام بسوية الاندماج الوطني، أو تفكير بالآليات التي تمنع تطابق الأكثرية الدينية أو المذهبية أو الإثينة بالأكثرية السياسية، أو أخطار تطييف الدولة؟ أو أن نفكر بالعلمانية دون انشغال بالمساواة السياسية، والتحوط لمنع أن تؤهل العلمانية لنظام نخبوي تسلطي، أو قناعا للطائفية؟ أخذ هذه المحاذير بالاعتبار يغني تفكيرنا و «يُعقِّده» أو يجعله أكثر تركيباً، فيُصعِّب التماهي المباشر به. أو لنقل إن ما هو جيد للتطور الفكري هو ذاته ما يلزم للحيلولة دون ضروب التلقي الفئوية، المناسبة لتجدد الطائفية.