تؤيد نظريات علمية فرضية وجود علاقة وثيقة بين إشباع الحاجات وبين الاستقرار النفسي للفرد. ومثلما ينتج التوتر عن نقص الإشباع، وفق هرم "ماسلو" للحاجات الإنسانية، يقود الجوع إلى الخوف على المستوى الاجتماعي، ويؤدي تدهور الأمن إلى قلّة الغذاء. ووفقاً لهذه المعادلة تتعاظم آثار النزاعات السياسية العنفية على الاقتصاد في المنطقة العربية، بما يقوّض الأمن الغذائي فيها، لا سيما أن العامل الطائفي في الصراع يتسبب في شيوع الكراهية التي تطيح بالوئام الاجتماعي، بما ينعكس على سلامة الدولة والمجتمع ونوعية حياة الناس. ويعتقد الخبير الاقتصادي العراقي محمد علي زيني أن «توفير الكفاية التغذوية للمجتمع كماً ونوعاً بما يتواءم مع احتياجاته صحياً واقتصادياً وثقافياً ولوجيستياً يستدعي ضمان الاستقرار السياسي»، مؤكداً ضرورة «اقتران تأمين الغذاء ببناء قدرات الأفراد لتحصيله». ويرى أن «فاعلية الدولة، والسلم الأهلي عاملان أساسيان في صناعة الأمن الغذائي»، معلّلاً ذلك بأن «الدول غير المستقرة سياسياً واقتصادياً، أو المفككة اجتماعياً، تختل غالباً كفاءتها في إيصال الأغذية لمواطنيها، وتتراجع قدراتهم في الحصول عليها، نتيجة غياب الرؤية وضعف المؤسسات»، فيحصل الاختلال المعيشي. الاختلال هذا يصفه أستاذ الاقتصاد في الجامعة المستنصرية في بغداد فلاح خلف الربيعي، بأنه «انتقال معظم السكان من الأمن الغذائي النسبي المتمثل بوفرة السلع في السوق في شكل دائم، وبأسعار معقولة، إلى انعدام الأمن الغذائي». ويرجع ذلك إلى «ظهور صدمات العرض الناجمة عن النقص الكبير في الأغذية، والذي سيتفاقم بفعل تراجع إنتاج واستيراد الحبوب الأساسية». ويترتب على التدهور الأمني اضطراب أوضاع الأسواق المحلية والإقليمية، بسبب العقبات والقيود المفروضة على عنصري الحرية الاقتصادية: العمل والتنقل. ويتحدث الربيعي ل «مدرسة الحياة» عن هذه الآثار بعد سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) على مناطق عراقية، ويقول: «ظهرت صعوبات كبيرة في الحصول المنتظم على السلع الغذائية وبخاصة للنازحين، وانقطاع البطاقة التموينية عنهم، فضلاً عن توقف رواتب الموظفين». وإلى جانب الخلفية السياسية لانعدام الأمن الغذائي، يشير باحثون إلى أسباب بنيوية مزمنة كالعجز عن تحقيق الاكتفاء الذاتي، والعطب التنموي الناتج عن الاختلالات الهيكلية في الاقتصادات الوطنية، والتغيّرات التي تطرأ على الوضع السكاني، والفقر والبطالة وتراجع التعليم، وتقلبات المناخ وأسعار الغذاء العالمية، وأسباب سياسية ثقافية تتصل بريعية الدولة وضعف رؤيتها الاستراتيجية وتعاملها مع مواطنيها كأفواه جائعة لها حاجات لا تنتهي، لا كأيدٍ منتجة لها قدرات ينبغي استثمارها. وفي هذا السياق، يقول زيني ل «مدرسة الحياة» إن نقص الأمن الغذائي يتأتى من هشاشة الفلسفة الاقتصادية التي تعد السكان أزمة لا فرصة، وعبئاً استهلاكياً على الدولة لا أداةً تنمويةً واعدة». ويرى أن «نقص الأمن الغذائي يرجع إلى عدم وجود قاعدة استثمارية وإنتاجية زراعية وصناعية متكاملة». وحول علاقة الأمن الغذائي بالنظام السياسي وهوية الدولة ينفي زيني أن يكون الأمن الغذائي مفهوماً شمولياً اشتراكياً، بل هو «مفهوم إنساني عام يفترض أن تتبناه الأنظمة كافة بما فيها الديموقراطية والليبرالية التي تعتمد اقتصاد السوق»، معتبراً أن «الديموقراطيات يُتوقع أن تكون أكثر حرصاً على الأمن الغذائي لمواطنيها بسبب الشعور بالمسؤولية والخشية من المساءلة». إقليمياً وعربياً، يرتبط تناقص الأمن الغذائي اليوم بالتوترات السياسية وحروب الهويات الدينية والأيديولوجية في الشرق الأوسط، ابتداءً بنزاعي سورية والعراق، وتداعياتهما على البلدين وعلى التجارة الأردنية، وحرب غزة التي نشبت في ظل اقتصاد فلسطيني يعاني أصلاً، ولبنان المهدد، والهزّات التي تعرّض لها الاقتصاد المصري خلال السنوات الثلاث الأخيرة، والعنف المتصاعد في ليبيا واليمن. وعراقياً، تؤكد تقارير الأممالمتحدة تدهور إمدادات السلع الأساسية كالقمح والشعير واستنزاف احتياطيات الحبوب نتيجة التقهقر الأمني بعد سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) على الموصل. ويؤكد زيني أن «مئات الألوف من نازحي الموصل خسروا مزية الأمن الغذائي حتماً»، مشيراً إلى أن «الذين يعيشون تحت حكم داعش ليسوا في مأمن من الجوع». وفي بقية العراق، تسعى السلطات للسيطرة على الأسواق عبر مراقبة الأسعار وتشجيع الاستيراد، فيما تبقى الحاجة ماسة إلى مساندة حكومية للمبادرات الإغاثية المحلية والدولية لمساعدة أعداد النازحين الذين يواجهون ظروفاً صعبة، لا سيما في ظل السعي لبلورة حلول سياسية واقتصادية للأزمة الأمنية. ويقول عضو حملة (غوث) الخيرية لمساعدة النازحين العراقيين رضا الشمري ل «مدرسة الحياة» إن «المبادرات المجتمعية مهمة، ليس فقط لدورها في مساعدة النازحين، لكن أيضاً لفاعليتها في لمّ شمل المجتمع وتعزيز السلام»، مضيفاً أنه «من واجب الدولة دعم منظمات الإغاثة هذه، وتوفير احتياجاتها القانونية والمادية لمساعدتها على تأدية مهامها»، ويتفق معه الأكاديمي الربيعي فيقول: «على الحكومة خلق انطباع إيجابي لدى السكان عن سياساتها، لتخفيف شعور المواطن بتخليها عنه، وتأكيد أن الدولة تستهدف الإرهابيين لا المدنيين». العلاقات بين دول المنطقة تتعرض أيضاً، ووفق خبراء، لاختبارات الأزمة، وارتباك الأسواق، والسعي لتأمين الاحتياجات الاستثنائية، والمحافظة على المخازن الاستراتيجية. وربما يكون التكامل العربي مقاربة ناجحة في هذا السياق، إذ يشير الخبير زيني إلى أبحاث «تدعو كوريا الجنوبية للتعاون مع كوريا الشمالية زراعياً، درءاً لأخطار أزمة غذائية عالمية متوقعة مستقبلاً».