ايضاً وأيضاً عن لبنان نكتب. لماذا؟ لأن بؤر التوتر من الانواع والاجناس والجنسيات كافة تجمعت فيه وحولت الوطن الى مغلوب على امره لا يستطيع الحراك حتى ولو بالحد الادنى من التفاهم بين من يفترض ان يكونوا شركاء في الوطن، لذا برزت حالات الانقسام والتشرذم بين اهل الوطن، ومن نزحوا اليه من خلف الحدود شرعاً او خلسةً، وكلها عوامل أمعنت في بلوغ لبنان مرحلة متقدمة من التدرّن الوطني والتداعيات الخطرة على المصابين بهذه العدوى وهذا الداء لجهة التفكك الوطني حتى لا نقول التحلل الوطني. وتبدو خريطة لبنان وعليها الكثير من «النقاط الحمر» إشارة الى الاجواء البركانية السائدة، واللائحة طويلة ويزداد اتساعها في الطول والعرض وأفقياً وعمودياً من طرابلس الى عرسال، الى صيدا، مروراً بالهرمل وبعلبك، والى سائر المناطق الاخرى التي وضعت وطن ال10 آلاف و452 كيلومتراً مربعاً في واقع بركاني الطابع والطبيعة وفي حالة عمل متواصل قاذفاً بحممه وشظاياه في شتى الاتجاهات، وسط حالة عجز كامل عن الرد على ما يتعرض له لبنان في هذه الآونه وما يعد له في الآتي من الايام. الجانب الامني على خطورته نضعه جانباً ولو الى حين للتعرض الى احدث الازمات التي تعصف بلبنان والتي تتمثل ب «ازمة المجلس الدستوري»، ليصبح ما يفترض ان يكون هو الحل للمأزق القائم، فإذا به يتحول الى ازمة بحد ذاتها. فمن المعلوم ان هذا المجلس يشكل حصانة قانونية ودستورية تستطيع ان تصوّب الامور في حال نشوب او نشوء نزاع بين طرفين. امام هذا المجلس طعون مقدمة من جانب الرئيس العماد ميشال سليمان، ومن جانب رئيس «كتلة الاصلاح والتغيير» العماد ميشال عون، حيث يلتقي كلا الطعنين على عدم دستورية القرار الذي اتخذه مجلس النواب اللبناني اخيراً بالتجديد للسادة ممثلي الشعب اللبناني لفترة سبعة عشر شهراً مضافة الى السنوات الأربع (الفترة الاصلية). وفي اليوم الاول لعقد المجلس في اول جلسة لمناقشة الطعنين المقدمين، كانت الصدمة الاولى بتعطيل نصاب المجلس بتخلف ثلاثة اعضاء (من مجموع عشرة) عن الحضور، وتكرر الامر في اليوم التالي، ليتضح بجلاء ان «التسييس» تسرب الى صفوف اعضاء المجلس الدستوري. وندرك اهمية الدور الملقى على عاتق المجلس عندما نعلم ان القرار الذي سيصدر عنه، في حال صدوره، سيقرر مصير المعركة المقبلة كأنْ يكرس مبدأ إجراء الانتخابات النيابية، خلال بضعة ايام من صدور القرار، أو إن كان الاجتهاد في الاتجاه الآخر فهذا يعني المضي في قانون التمديد لمجلس النواب الحالي. ومن الامور التي يؤسف لها ان الذي ساهم في تعطيل نصاب عقد المجلس الدستوري هو «اللوثة» المذهبية والطائفية التي تمعن في نهش لبنان وطناً وكياناً وتركيباً. لقد كان تعايش ثمانية عشر مذهباً في وطن مشترك ميزة تغنّى بها لبنان لسنوات. ولكن مع تقادم الزمن اتضح مدى خطورة هذه الآفة على افراد الشعب اللبناني في حاضرهم وفي مستقبلهم. وهكذا وفي سياق معايشه الاوضاع المتحكمة بالوطن، بات كل شيء يخضع لاعتبارات محض شخصية بحيث تفضي كل الاجتهادات والفتاوى والتفسيرات الى مجرد «وجهات نظر». وفي ضوء ما جرى حتى الآن، يبدو لبنان في حالة من الشللية حيث سقطت كل المرجعيات السياسية والوطنية، الامر الذي يضع «الوطن الصغير» من جديد في غرفة العناية الفائقة، مع الخشية الجدية من انقطاع الاوكسجين عنه، الامر الذي يعرّض الحياة والمصير برمته لكل انواع المفاجآت ومعظمها من النوع غير السار ابداً. يحدث كل هذا ولبنان يعايش هموم أو شجون ما يجري في الداخل السوري غير البعيد من الحدود المتداخلة بين البلدين. ويجنح بعض المتداخلين في «الاستراتيجيا» الى الحديث عن مرحلة ما قبل القصير، وما بعد القصير! واذا كان الامر المؤكد ان معركة مدينة القصير انتهت لمصلحة تحالف الجيش السوري (النظامي) مع مقاتلي «حزب الله»، فإن ارتدادات هذه الواقعة مع غيرها من العوامل المتحكمة بالواقع السوري تجعل لبنان يخشى حدوث ما أُطلق عليه «العمليات الثأرية» رداً على تدخل عناصر من «حزب الله» في القتال الى جانب النظام السوري. والسلطات اللبنانية تتعاطى بجدية وحذر مع هذه المعلومات. وفي هذا السياق وقبل ايام، استقبل الرئيس ميشال سليمان النائب محمد رعد وتم التداول في كيفية مواجهة اي خطر محتمل، الامر الذي يعرّض واقع لبنان لمخاطر جدية يُخشى معها انعكاس الأجواء البالغة التعقيد على العيش المشترك في الداخل اللبناني. وعندما طرح السؤال عما جرى خلال اللقاء في القصر الجمهوري، جاء الجواب «كان اجتماعاً صريحاً». وهذا التوصيف يطلق في العادة على اي اجتماع يعكس بصراحة طبيعة العلاقات المعقده بين لبنان كسلطة، و «حزب الله» كمقاومة، والبحث في كل الصيغ الآيلة الى الحفاظ على الاستقرار الداخلي ولو في حدوده الدنيا. والنقطة المحورية التي تخيم على الواقع اللبناني تتلخص في الآتي: حيال ما صدر من احتجاجات من جانب فريق لبناني (تجمع 14 آذار والحلفاء) حول التدخل اللبناني في الشأن السوري، رد على هذا التساؤل الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصر الله عندما عرض للشرح الآتي: «لم يكن في امكان المقاومة الاسلامية في لبنان ان تقف على الحياد باعتبار ان العلاقات الاستراتيجية القائمة بين النظام في سورية والمقاومة في لبنان تحتم على الحزب ان يقاتل في الحرب الدائرة في سورية وعلى سورية، ليس فقط دفاعاً عن سورية، بل دفاعاً عن المقاومة». وهذا الطرح ينقلنا الى طرح مصير الحكومة الجديدة في لبنان، والتي كلف بتأليفها تمام صائب سلام. ولم يعد سراً القول ان مراحل تأليف الحكومة السلامية العتيدة تتعرض لكثير من التعقيد وبخاصة لجهة تأليف فريق وزاري متجانس، ويطلق الرئيس المكلف على حكومته الآتية، في يوم، في شهر او في سنة، توصيف «حكومة المصلحة الوطنية». ومن ابرز العقد التى فرضت طرحها في الآونه الاخيرة وفي ضوء مشاركة «حزب الله» في معارك القصير، اصرار تجمع الرابع عشر من آذار على عدم الجلوس الى طاولة واحدة مع «حزب الله»! فكيف يمكن تأليف اي حكومة جديدة وإبعاد ممثلي «حزب الله» عن التمثيل في الحكومة الجديدة؟ وبعد... اولاً: ان الوضع العام المخيم على لبنان وفي مختلف المناطق والمذاهب والطوائف، يواجه الكثير من التحديات مع وجود ما يزيد على مليون شخص من الذين نزحوا من سورية الى لبنان من حيث إيواء هذا التدفق البشري وتأمين الاحتياجات الحياتيه لهؤلاء النازحين واللاجئين، والاهتمام بمعالجة أعداد كبيرة من الجرحى الذين أُصيبوا في المواجهات العسكرية المستعرة في سورية. ثانياً: استناداً الى معلومات بعض المتابعين عن قرب لما يجري في سورية، فإن الوضع القائم على خطورته، سيشهد المزيد من التصعيد في الآتي من الاسابيع والأشهر في ضوء الاعتبارات الآتية: أ: سعي كل فريق متدخل ومتداخل في «الحالة السورية» الى تحقيق اكبر الانجازات العسكرية في الميدان، الامر الذي سيحسّن وضع هذا الفريق على طاولة المفاوضات في «جنيف 2» حيال الفريق الآخر لدى البحث في الحل السياسي، وهذا الامر يعالج بكثير من الجدية بالنسبة الى روسيا، وبعض الجدية من جانب الولاياتالمتحدة. اما الاعتبار الآخر، وفي معرض تحليلنا للتصعيد الميداني واللوجستي المتوقع، فهناك الكلام على وجود بعض الرغبات الاوروبية في إمداد المعارضة السورية ب «أسلحة نوعية» يمكن ان تجعل المعارضة في وضع تفاوضي «افضل» مما هي عليه الآن. وسواء كان هدف التصعيد تعزيز سقف التفاوض، او حصول المعارضة على اسلحة جديدة، فإن الامر يعني استمرار حرب استنزاف طويلة الامد في سورية. ثالثاً: في معرض التصنيف والتوصيف لما يجري في سورية من جانب لبنان، يطرح التوجه الآتي: اذا كانت الحروب الاهلية التي خاضتها مجموعات كثيرة من جنسيات مختلفة «حروب الآخرين على أرضنا» (رحم الله غسان تويني)، فإن ما نشهده حالياً هو حرب اللبنانيين خارج الحدود، وفي سورية. وسيبقى السؤال الكبير مطروحاً لوقت غير قصير: ما جدوى انخراط اطراف لبنانية («حزب الله» وغيره من المسلحين الآخرين الذين يقاتلون الى جانب المعارضة)، وانعكاس هذا التقاتل على الصعيد الداخلي اللبناني لجهة تماسك «العيش المشترك»، والمحافظة على «الصيغة اللبنانية» التي تتعرض هذه الايام للكثير من التحديات والاختبارات التي تضع لبنان في موقع الاختيار الصعب! وتبقى «السورنة» ذلك الشعار الذي يُضم الى سلسلة التسميات والتوصيفات الاخرى من «عرقنة» الى «صوملة» الى «افغنة» الى... الى... ويبقى الآتي هو الاعظم. لقد بدأنا المقال بلبنان وننهي به لقول الآتي: لعل تعبير وحدة «المسار والمصير» والذي كان سائداً في فترة زمنية معينة، يتجدد ولو من منطلقات اخرى تختلف عن السابق. ان لبنان على مختلف المستويات مدعو لتقديم المساعدات الممكنة على الصعيد الانساني، وهذا امر واجب في الظروف المأسوية على رغم الطاقات المحدودة للبنان. لكن مع استمرار تدفق النازحين، وتقدير كل الدوائر الدولية التي تتوقع الأسوأ من الآن الى مطلع العام المقبل، ستتزايد الضغوط البشرية وغير البشرية على لبنان. وبعيداً من العنصرية والشوفينية نقول: حتى لا يتحول اللبنانيون الى نازحين في وطنهم. * إعلامي لبناني