لا يختلف اثنان على كون السينما فناً راقياً، ولكن الأرقى دوماً أن تكون معنياً بمشاهدتها كما ينبغي. بنسب متفاوتة تتعدد مستويات المشاهدة من شخص إلى آخر حتى ولو كانت عن وعي ودراية وإلمام بهذا الفن الراقي. ومن هنا أهمية ما يصل إليه الدكتور ناجي فوزي في كتابه «قراءات خاصة في مرئيات السينما» من محاولة تقديم ذروة التلقي والنموذج الأقرب إلى الكمال في مشاهدة فيلم. أفلام كثيرة تُجبرك على الإصغاء إلى صورتها.. تُحتم عليك التنصت إلى ما تُسرّه إليك وتدفعك لأن تشعر به لأنها الوسيلة التي اختارت أن تصل إلى ما يقرب من استبدال الكلمات واختزالها في تكوينات مرئية تشي بمعانٍ معينة. لكن الباحث المصري الدكتور ناجي فوزي اختار في كتابه مجموعة من الأفلام التي لم تثر بصرية المتلقي فتجبره على الانتباه لها، وإنما عنت بتفاصيل صورتها من دون أن تضعها، أي التفاصيل، تحت بقعة الضوء وإنما أبقتها عنصراً يتوسط باقي العناصر الأهم التي في الأغلب تُلهي المشاهد عنها. فآثر ناجي التقاطها وقراءتها بشكل لافت يعيد حسابات تقييمك للفيلم. تحليل الكادر يستهل الباحث كتابه بتدقيقات مرئية تخص فيلم «بداية ونهاية» في مقالة يمكن اعتبارها من أفضل ما في الكتاب، فبداية من اللقطة الأولى التي تعاطى معها الدكتور ناجي بوعي ويظهر فيها حسنين (عمر الشريف) على مبعدة بين براثن المطرقة والحديد الذي تدكه حيث استشف منها مضمونية مكثفة أراد صلاح أبو سيف أن يختزلها في مكون مرئي فعال مفاده التعبير عن هضم المجتمع حقوق هذه الطبقة المعدومة التي ينتمي إليها حسنين بشكل عام، وفي الوقت ذاته يدلل على المصير الذي ينتظر حسنين في نهاية الفيلم رغم كل طموحاته وتطلعاته المستميتة طوال أحداثه. وجاءت المقالة الخاصة بفيلم «العصفور» بأكملها تقريباً تحليلاً لمكونات الكادر واتجاهات شخصياته، حيث عبر الكاتب عن اتجاه يمين الكادر الذي اتخذه فنان الفيلم رمزاً لكل شيء يراه إيجابياً وعلى العكس اتجاه اليسار الذي كان وجهة الشخصيات والأحداث السلبية. بعد ذلك تناول الكاتب بعض المشاهد تفصيلياً من جهة الصورة في فيلم «الشوارع الخلفية» حيث يتعرض الكاتب للحادثة الأهم التي تقع لعائلة داود أفندي والتي تضبط فيها عديلة (سناء جميل) زوجها خارجاً من المطبخ بعد مضاجعته الخادمة، وفي الوقت ذاته نجد ابنها سعد (نور الشريف) وهو يتلمس طريقه إلى المكان نفسه للقيام بالفعل نفسه. يصف الكاتب المشهد بالتفصيل وينسبه إلى أسلوب الإخراج من العمق، ويقول: «داوود في يمين الصورة يوازنه الابن سعد في يسارها، الاثنان يحملان نفس الغرض للخادمة (كلاهما يحمل دورق المياه) وإن كان الأول قد نال وطره منها (هناك مياه في دورقه). وتظهر الخادمة في أقصى عمق الصورة في مركز الاهتمام. وعديلة تتقدم عنها بوقوفها كالحارس أمام باب المطبخ بما يؤكد سيطرتها الفعلية على الموقف». ويرفق ناجي في آخر المقال رسماً «كروكياً» يوضح موقع الشخصيات الثلاث بما يدلل على المضمونية التي قصدها المخرج كمال عطية. ويتجلى الكاتب في تعاطيه مع المشهد التالي للواقعة ذاتها حيث يتناوله بالاهتمام نفسه منحّياً كل جزء فيه على حدة، راصداً حركة الأم عديلة التي استشرت خلال المشهد بأكمله في مدلول ينم عن قدرتها على احتواء الموقف والتعامل معه قهراً. فهي التي تقدم الطعام لولديها، بما يفيد أنها تخلصت من الخادمة قبل قدوم النهار وتقوم بالنفخ في شعلة فتيل ماكينة القهوة التركي ومن ثم تغطيها في تفصيلة وصّفها الكاتب رمزاً يشير إلى إطفائها آخر رمق في رجولة زوجها وحياته الجنسية بشكل عام. التقاط تفاصيل ويأتي نصيب الأسد من هذه الملاحظات فيما يخص فيلم «بداية ونهاية» مثلا، حيث نجد ان من أهم ما قدمه فيما يخص ذلك حديثه عن السلم الذي يودي إلى بيت حسن (فريد شوقي) وحرص صلاح أبو سيف على أن يبرزه في مشهدين ذهب فيهما أخواه ليطلبا منه استدانة بعض النقود، فتُظهر الكاميرا هبوطهما الملحوظ إلى الدور الأرضي، بينما تتفادى ظهوره في مشهد زار فيه حسنين، بعدما دخل كلية الشرطة، أخاه حسن في إشارة إلى التغير الذي طرأ في نفس حسنين إثر رؤيته لذاته وهو يرتدي البذلة العسكرية ويناديه الآخرون بلقب الضابط. ومن أقوى ما تناوله الكاتب أيضاً عن الفيلم نفسه اللافتات المكتوبة التي استخدمها أبو سيف لزاماً لظهور بعض الشخصيات أو اجتماعها في كادر واحد مثلاً لافتة «اتق شر من أحسنت إليه» التي اعتلت الحائط متوسطة نفيسة (سناء جميل) وأخيها حسنين ورامية إلى طبيعة العلاقة بينهما والنهاية التي ستبلغها، ولافتة «الصبر مفتاح الفرج» التي اجتنبت المرآة الموجودة في غرفة نفيسة فضلاً عن كلمات إعلان المأذون الشرعي المرسومة على الحائط بين نفيسة والبقال (سلمان) صلاح منصور في المشهد الذي كانت تطالبه فيه بأن يتزوجها كما وعدها. ويستحوذ فيلم «ليل وقضبان» على قدر ليس بهين من هذه التفاصيل حيث يلاحظ الكاتب ملازمة النور والنار لظهور الزوجة سميرة (سميرة أحمد) في رمزية لعاطفتها المتأججة. ويدلل على ذلك في المشهد الذي تُحرك فيه سميرة أخشاب المدفأة لتتزايد ألسنة النار مُعبرة عن اشتعال رغبتها، فتتقلب بعدها على فراشها بأرق. كما يرصد أيضاً المقاعد التي فصلت بين الزوج والزوجة على مائدة الإفطار في رمزية لتعالي الحواجز التي تقف بينهما خصوصاً بعد دخول أحمد (محمود ياسين) حياة الزوجة. وتأتي التفصيلة الأهم في نفس الفيلم عندما يلتقط الكاتب ملازمة توسط بندول الساعة بحركته المتوترة بين توفيق (محمود مرسي) والشلقاني (توفيق الدقن)، بعدما يخبره الشلقاني أن زوجته تخونه ويصبح ملزماً تجاهه بأن يقدم له الدليل ليأتي بندول الساعة رمزاً معبراً للانتظار ومؤشراً لتوتر الموقف بأكمله. في بعض مواطن الكتاب قد تختلف مع الدكتور ناجي فوزي في تأويله بين بعض المرئيات وأخرى فيراودك إحساس باستغراقه في تناول بعض التفاصيل الأكاديمية التي عبر عنها بشكل قد يُربك القارئ أحياناً، وفي أخرى ستعترف بضعف بعض مقالات الكتاب مثل المقالتين الخاصتين بفيلمي «المومياء» و «شفيقة ومتولي» لكنك، في شكل إجمالي ستظل منبهراً بتلك العين السينمائية المتفردة.