تفخر فرنسا بامتلاك تاريخها الفني لمعلم مؤسس مثل دومينيك آنغر (هو المولود عام 1780 خارج باريس والمتوفى فيها عام 1867). لا يقل أهمية كلاسيكية وأكاديمية عن معلمه الأول رفائيل في عصر النهضة الإيطالي (القرن السادس عشر)، ولكنه متفوق على تلميذ رفائيل الباريسي الكلاسيكي الثاني دافيد والذي أصبح أستاذاً لآنغر، فقد سبقه في الدراسة في روما، وكان مسيطراً على «العهد البونابرتي» الذي جمع الإثنين. أصبح دافيد قبله المصور الرسمي لنجومية سلطة «نابليون بونابرت»: بلاطه وزواجه من جوزفين، وتتويجه الملحمي وخروجه عن سلطة الإكليروس ثم انتصاراته العسكرية. بونابرت نفسه كان متحمساً لما يسمى في القرن الثامن عشر بهيمنة مودة «الطيلنة» في الفن والعمارة، باعتبار الفن الإيطالي وريثاً شرعياً للثقافة الرومانية التي حفظت ميراث إضاءات النحت والتصوير اليوناني (الإغريقي)، هو ما يفسر دعوة بونابرت لعدد من فناني روما الى بلاطه على غرار النحات كانوفا الذي نحت تمثالاً عارياً رخامياً لأخت بونابرت، بولين. وهو ما يفسّر أيضاً منهج التنظيم الحضري - المعماري في العهد البونابرتي، الذي يعتمد على شق الشوارع الرئيسة المتقاطعة أفقياً وعمودياً في العاصمة بحيث زُرعت بأعمدة وأقواس النصر، والساحات والبحرات الاحتفائية المنحوتة على الطريقة الرومانية - الإغريقية. هي النزعة القومية التي ترجع حتى العهد الملكي (قصر فرساي). لم يصل المعلم آنغر في هذه الفترة الى نجومية وسلطة دافيد، كما أنه لم يكن على توافق مع التجديدات الرومانسية للنجم الجديد أوجين دولاكروا ولا للواقعية التي حمل لواءها غوستاف كوربيه. هو ما يفسر عدم اكتشاف عبقرية أداء فناننا إلا من جانب الفنانين المحدثين من أمثال بيكاسو وماتيس ودوفي، وإعادة الاعتبار واستثمار أصالة تكويناته التي لا تستنفد تجديداتها، حتى أنه يعتبر اليوم النبع الأساسي للحداثة والمعاصرة بسبب مكانة لوحاته التي لا تنسى على غرار: «الجارية» و «الحمام التركي» والبورتريهات ذات الكمون البسيكولوجي الاجتياحي، ناهيك عن طريقة رسمه للعري النسائي أو الذكوري، الذي أعيد بعثه مع فرانسيس بيكون والواقعية الجديدة في الستينات مع مارسيال رايس. أعاد الأول رسم لوحة «أوديب وأبو الهول»، وأعاد الثاني رسم «الجارية» بملصقات طباعية، ووصل التأثير حتى دادائية مارسيل دوشامب والبوب آرت وفي ميدان رواد الفوتوغراف وبقية المحدثين بمستوى رينو وبوري... وغيرهم كثر. لا شك في أن كتابات بودلير النقدية رسخت سوء فهم فن آنغر، فقد كان يفضل عليه دولاكروا ويصفه بطريقة متعسفة في إطار الصفة النقلية السلبية للأكاديمية الكلاسيكية، مما اضطر كوربيه في حينه للدفاع عن آنغر وأصالته التجديدية كرفائيل جديد معاصر. ولعل التحام فن آنغر بموسيقى عصره أبعده من السرد الذي يهم بودلير والنقد الأدبي، (آنغر نفسه كان عازفاً على الكمان). واليوم يعاد الاعتبار الى دور عبقرية آنغر في تظاهرة حافلة متعددة الحضور تقع بين متحف اللوفر ومتحف آنغر (مونتوبان)، وتحت عنوان «آنغر والحداثة» تعرض في متحفه بإشراف اللوفر 40 لوحة معروفة تجتمع للمرة الأولى، تقف للمقارنة مع لوحات المحدثين بخاصة بيكاسو. ساهمت في تكاليف هذا العرض المقارن الاستثنائي شركات الاستثمار الخاصة، بما فيها بعض البنوك، ونُبشت تأثيراته المتباعدة على شتى تصاوير الفن المعاصر ما بين باريس ولندن ونيويورك. ابتدأ العرض المركزي في متحفه الخاص في تموز (يوليو) ويستمر حتى الرابع من تشرين الأول (اكتوبر). لم تنج حتى جدران كنيسة نوتردام الباريسية من هذه التظاهرة باعتبارها تعيد الى عظمة آنغر ما تستحقه حساسيته الشمولية على المستوى الوطني من تقدير.