لم يكن أورهان باموك يحتاج إلى المشاركة في التظاهرات التي شهدتها إسطنبول وساحتها العريقة «تقسيم» دعماً للجماعات المحتجّة التي تعارض سياسة الحكومة إزاء التحديث العشوائي و «التغريب» والتتريك، وفق مقولات باموك نفسه. كتب صاحب «البيت الصامت» مقالاً غاضباً لا يخلو من الحنين، في صحيفة «حرييت»، تناقلته صحف عالمية، استعاد فيه إحدى حكاياته الطريفة التي تذكّر بحكاية الحديقة التي تزمع الحكومة على اجتثاثها لتبني مكانها مركزاً تجارياً، وهي كانت الشرارة التي أشعلت نار التظاهرات التي لم تخلُ من عنف. وفي الحكاية أنّ أسرة باموك تنادت مرّة لتمنع اقتلاع شجرة كستناء ترخي ظلالها الوارفة على ساحة البيت. كانت بلدية إسطنبول قررت قطع هذه الشجرة التي تجاور دار العائلة منذ خمسين عاماً، لكنّ تحرّك الأسرة حال دون قطعها وحماها، كما يقول باموك، من الفؤوس الصلبة. وأعرب باموك عن عودة الأمل إليه عندما شاهد «شعب» إسطنبول يستعيد حقه في التظاهر وحقه في الدفاع عن ذاكرة ساحة «تقسيم» التي هي ذاكرته، لكنه لم يشر إلى أنّ ما يحصل يمكن إدراجه في سياق الربيع العربي أو أيار باريس 1968، واكتفى بوصفه بحركة «الغاضبين». ومثله كتبت الروائية الكبيرة إليف شافاق في صحيفة «هابرتورك» مدافعة عن إسطنبول، قائلة: «من يحبّ إسطنبول لا يمكنه المكوث مكتوف اليدين. من غير الممكن. إذا أردنا أن نساعد المدينة في النهوض من رمادها، علينا أولاً أن نعيد إليها ذاكرتها». قد يكون مقال باموك هذا شذرة من شذرات كتابه البديع «إسطنبول... ذكريات ومدينة»، وهو أعلن فيه حبه المجنون لهذه المدينة، بتاريخها وجغرافيتها، بجوامعها ومآذنها وقبابها وشوارعها وجسورها وينابيعها وزواياها وتكاياها ولياليها ونهاراتها وناسها أياً كانوا... وبالطبع لم ينسَ ساحتها الساحرة «تقسيم» التي تختزن ذكريات أهل اسطنبول، كلّ أهلها، وذكرياته هو، الشخصية والعاطفية... والنضالية عندما كان يشارك في احتفالات العمال التي تنظمها النقابات في قلب الساحة. ناهيك بالبوسفور وضفتيه اللتين هما ضفتا «الحالة» التي تمثلها إسطنبول، الرابضة منذ قرون بين آسيا وأوروبا... عين على الأصالة وأخرى على الحداثة. أما أكثر ما يسحر باموك، فهو التنزّه على ضفة البوسفور. قد يمّثل كتاب «إسطنبول» البديع خيرَ مدخل الى قراءة ما يحصل في اسطنبول، إذا اقتُصر الصراع الناشب بين الحكومة والمعارضة على مبدأ الحفاظ على ذاكرة المدينة، والساحة تحديداً، وصونها من مغبّة التغريب والتحديث العشوائي والمدمّر. لكنّ هذا الصراع لا يمكن حصره البتة في هذا المنحى، فهو لا يخلو من السياسة والنضال السياسي، لاسيما أنّ المعارضة التركية «معارضات»، وكل واحدة تملك أجندتها الخاصة. ولئن أعلن باموك مراراً اعتراضه على سياسات الحكومة الراهنة والسابقة، وانتقد بشدة إصرار الدولة على عدم الاعتراف بالمجازر ضد الشعب الأرمني، وكذلك علاقتها السيئة بالأكراد، وهو لوحق قضائياً جراء مواقفه الجريئة هذه، فكتابه «إسطنبول» يبتعد عن السياسة في معناها اليومي والمباشر ليقارب القضية الوجودية التي تتمثلها المدينة العظيمة المشبعة بالأسرار والألغاز، والتي عاشت عن كثب تحولات التاريخ والحضارة، في صعودهما وسقوطهما. هذه القضية الوجودية، قضية إسطنبول، جعل باموك منها خلفية كتابه، الذي يبدو أقرب إلى السيرة الذاتية المزدوجة، سيرة الكاتب وعائلته، وسيرة المدينة وذاكرتها في مراحلها كافة: الإمبراطورية العثمانية، أتاتورك، الانقلابات العسكرية والعصر الراهن. ولا يميّز الكاتب بينه وبين المدينة، بين قدرها وقدره، فهذه المدينة هي التي صنعته شخصاً وشخصية تبعاً لارتباطه «الرحميّ» بها، كما يعبّر. وهو إذ يعمد إلى رثائها فإنما يرثي زمناً كانت فيه إسطنبول عاصمة الأرض المتروبوليتية. ولعلّ الزمن الحديث والمعاصر، القاتم والضائع، لا يمكن أن يُقارن بزمن إسطنبول السابق، المشرق والفريد. هذه المدينة هي الآن في نظر باموك على شفا فقدان إرثها الثقافي، الغني والمتنوع، عرقياً ولغوياً. ويتهددها، أكثر ما يتهددها، نزعة التتريك التي تسعى إلى جعلها «مكاناً خاوياً، أحادي الصوت واللغة». يقول باموك: «عشت طفلاً في إسطنبول بصفتها مكاناً بلونين». الحديقة التي تبغي الحكومة اقتلاعها من ساحة «تقسيم» قد تشبه شجرة الكستناء التي نجحت أسرة باموك في حمايتها من الفؤوس. كلتاهما، الحديقة والشجرة، تمثلان ملامح من ذاكرة إسطنبول. لكنّ التظاهرات الآن ليست في براءة احتجاج الأسرة العريقة. ومهما بدا التظاهر حقاً من حقوق أهل إسطنبول، فالخوف أن ينحرف المتظاهرون عن سبيلهم فيقعوا في فخ غالباً ما يتقن المتآمرون صنعه. الخوف، الخوف هو على إسطنبول، المدينة التي لا يمكن إلاّ أن تُحب، المدينة التي لا يمكن أن تُنسى.