لم يكن الخطاب الأخير لزعيم «حزب الله» أقل من إعلان حربٍ شاملة لا توسط فيها ضد الثورة السورية تحت شعار الحرب الاستباقية ضد «التكفيريين» و «حماية ظهر المقاومة»، ومن انخراطٍ عضوي في حرب النفوذ والقوة الإقليميين المتداخلة مع توترٍ مذهبي متصاعد يغدو عنواناً رئيسياً لها، ومن اصطفافٍ في المحور الدولي الحليف لإيران. وهو إعلانٌ لا بد من أن يتجاوز في نتائجه كل ما عرفناه سابقاً من آثارٍ لسياسات الحزب ومسالكه في لبنان والتي أسفرت منذ 2008 عن استقرار هيمنته العمومية الفعلية ثم إشهارها (بتغيير الغالبية بالقوة وتأليف حكومة ميقاتي) من جهة وعن تدعيمه أداتها الرئيسية المتمثلة بالتهديد الدائم بالحرب الأهلية المُضمَرَة من جهة أخرى. ولعل أولى النتائج لذلك هي اتجاه لوحة المشهد الامني - السياسي في لبنان الى مزيد من التعقيد الذي يهدد بنقلها الى مستوى أعلى من تلك السمة الموضعية والمناطقية التي رست عليها منذ بدء الثورة السورية والتي بدت حتى الآن قابلة للاحتواء عبر تسويات هشة جرى التعارف على اعتبارها تعبيراً عن عدم رغبة وانعدام مصلحة قوى النزاع الأهلي في المغامرة بدخول جحيم الحرب الأهلية ذات الطعم الشديد المرارة في ذاكرة اللبنانيين وعن توافقٍ إقليمي - دولي على ابقاء النزاعات مضبوطة بتهدئة قشورية مانعة للانفجار وعاجزة عن الحل صبَّت في النهاية لصالح استقرار نظام هيمنة «حزب الله». والواقع ان الوضع السابق لإشهار نصرالله حربه كشف عن حقيقتين متناقضتَيْ النتائج: الأولى عدم صحة الحسابات التي بالغت بقدرة النظام الاسدي على احتواء الثورة بالخيار الأمني في مرحلة أولى ثم بالحرب الشاملة تالياً. وهذا ما رأيناه في التدرج من إنكار أهمية الأزمة (على وزن قول نصرالله قبل سنة ونيِّف: ليش شو في بحمص؟) إلى ضرب المواعيد المتتالية لاستعادة النظام سيطرته دونما طائل. وهي حسابات كانت لا تزال تتيح للحزب وراعيه الايراني حتى وقتٍ قريب اتباع منهج تدخل عسكري محدود وسياسي مُعلَن تحت شعار حماية الشيعة اللبنانيين في قرى سورية و «المقامات والمراقد المقدسة»، ولكن تبيان خطئها أرغمهما على انتهاج سياسة اشهار وتوسيع التدخل كضرورة عملانية ضمن الهجوم المضاد للنظام العاجز بقواه الذاتية وحدها عن خوضه. الثانية أن الحزب يعيش أصلاً حالة تداخل جزئي تكويني بالآلة العسكرية والأمنية الأسدية باعتبارها شرطاً طبيعياً ل «مقاومته»، مما ساهم في تقديم تدخله المحدود منذ بداية الانتفاضة الشعبية السورية كأمرٍ عادي فيما كان يجري تقديم الدعم الذي تلقته الأخيرة من اوساطٍ شمالية بوصفه تدخلاً خطيراً وغير مشروع. ونجم عن ذلك ميلٌ لدى قوى لبنانية عديدة داخل وخارج الحكم إلى تصنيفٍ مصنوع لغاية المناورة أو التهدئة يضع السيد نصرالله بين شخصيات الاعتدال الاسلامية جنباً إلى جنب مع السيدين الحريري وبري كما فعل رئيس الجمهورية في حديثه الاخير إلى تلفزيون «المستقبل» رغم أن جانبه الأهم تركز على دعوته إلى «ان يعيد النظر بإقحام المقاومة في سورية ويعود الى لبنان»، وعدم التورط بفتح جبهة الجولان. الا ان تحول التداخل إلى تلاحمٍ ميداني في هجومٍ تتوِّجْه قيادة ايرانية مباشرة لا بد أن يحرج الجميع ويكشف أن ما كان يُعتبَر عادياً لم يكن سوى مرحلة حضانة موضوعية للتدخل الهجومي المكشوف وأن الحزب مُعّدٌ ايديولوجياً وسياسياً للتحول بقرار من المركز الإيراني ل «لأممية» الخمينية إلى جيشٍ وأجهزة أمنية عابريْن للحدود، وهي وضعية كان جرى اختبار بعضاً من صورها في العراق وغزة وعلى امتداد العالم. والحال أن التوتر انتقل منذ إشهار «حزب الله» هجومه في القصير واشتراكه في اماكن اخرى بعيدة من المقامات والمراقد من المستوى السياسي - الاعلامي المتضمن محتوى أمنياً محدوداً (الشيخ احمد الأسير الصيداوي كأحد أبرز معالمه) إلى توتر أمني دائم يتضمن تظهير قدر محدود من السياسة والكثير من الاصطفاف المذهبي. وتقدم اللوحة اليوم المزيد من العناصر المقلقة: - توترات مذهبية عسكرية الطابع في طرابلس التي يتواجه فيها رمزياً طرفا «الصراع السني - الشيعي»، وأخرى يغلب عليها الطابع الاعلامي المستدام في صيدا وتختزن احتمال نقلة أمنية خطيرة كمدينة حاجزة بين الجنوب والضاحية وكأحد أهم مراكز اللجوء الفلسطيني. - توترات حدودية متداخلة مع الانقسام المذهبي ومُقحِمَة للأهالي واستطراداً للنازحين السوريين بينهم على جانبي الحدود شمالاً وشرقاً في عكار وعرسال والهرمل. - توترات أمنية متقطعة يرشح منها توتير مذهبي مباشر في بيروت او جانبي (الجبل /الضاحية). وضمن هذا الاطار شهدت الفترة الأخيرة جملة احداث على المستويات الثلاثة يختلط فيها المُدبَّر بالعفوي والعرضي. فجرى قتل ثلاثة جنودٍ لبنانيين في وادي الحميد قرب عرسال وتراوحت الاتهامات بالعملية بين النصرة وبين جنود النظام الاسدي. وقُبيل ذلك قُتِلَ ثلاثة جنودٍ آخرين بطرابلس في اشتباكات واسعة واجهت باب التبانة السُنية بجبل محسن العلوي وخرج فيها «قادة المحاور» على قرارات ممثلي طرابلس في حين ازدهرت الشائعات والتحليلات المتناقضة عن مصير الأخير في فرضية سقوط «القصير» السورية. وجرى إطلاق صاروخين من عيتات القريبة من بيروت على الضاحية ليُوحي معلقون «ممانعون» بنسبتها إلى جنبلاط في محاولة لابتزازه واستدراج ضغوط جديدة عليه بما وما يمثل في الموقف من الموضوع السوري وملف « تحالف الأقليات». سياقٌ يجعل من اقتراح تساوي اللبنانيين الشكلي بالقتال في سورية وتقديمه بمثابة «حلٍ» يضمن الحفاظ على «السلم الأهلي» اللبناني لعبة تحجيبٍ لحفظ هيمنته وتقليل جبهاته والإنصراف إلى حربه المركزية. وهو عدا جانبه اللاأخلاقي وغير الانساني والفوقي المستهين بتضحيات السوريين وآمالهم، لا يفعل غير تهديد هذا السلم بصورة أخطر من أي وقتٍ مضى لأنه يضيف آلية جديدة لانتقال الحرب المُضمرَة ومكونها المذهبي إلى مرحلة التفجير الشامل وجعل لبنان مركزاً للحرب الإقليمية التي يهدد بها النظام الأسدي كأداة لخلاصه. إنه الجمع المستحيل بين حرب لبنانية في سورية وسلم في لبنان. * كاتب لبناني