«لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيقُ»... بيت من قصيدة للشاعر عمرو بن الأهتم التميمي يعزي أو يسلي نفسه جراء ما لاقاه من ضيق عطن الرجال، قاله حينما كان الكون حوله فضاءً مفتوحاً لا متناهياً، لا يعرف الجغرافيا ولا حتى ذاك التاريخ، فما الوطن والحدود عند أهل زمانه إلا بويتات مدر أو وبر تتناهى بتناهي حدود ترائي العين، صدق الشاعر في ضيق صدور الرجال وصدق في سعة الأرض... لكننا اليوم في وطننا العربي ودولنا القطرية بتنا نعاني من ضيق الأوطان مع ضيق صدور الرجال وتحجر بطانتها الشعورية والوطنية ضيقة الحياكة والمقاس... أعني أوطاننا العربية التي تكشفت حجبها ومكنوناتها الوطنية المتهتكة بعد ما يسمى الربيع العربي أو الثورات العربية... الثورات لم تصنع جديداً، ولم تستورد عدوى أو أفكاراً من خارج المشيمة العربية، حسبها أن أعلنت وأباحت عن مستور الوطن عن مدى ضيقه عن المكونات البشرية التي تشتمله (المكون الطائفي - المكون العرقي - وعامة المكونات المتباينة على أي أساس ثقافي وإثني). الوطن العربي لم يكن مترعاً بالوئام ولا الوحدة الوطنية ولا العدل والمساواة ثم تداعى فجأة من دون مقدمات، إنما هو عالم متداعٍ متصدع وإن تماهى في المكان لكنه كان خارج آلة الزمان وطناً يحضر في الجغرافيا ويتغيب في التاريخ. ما الذي كان وما الذي حدث... كما نقرأ يومياً في سرديات الثورات على دول الثورات، والأخرى التي لم تتورط في الثورات، فإن الوعي العربي يترحل عن الواقع الذي نام عليه دهراً ليس لأنه اليوم يبحث عن المستقبل الذي يستحقه مناضلاً من أجله ومن أجل التحول إليه والرحيل عن ماضيه وراهنه، أو من أجل الانقلاب على حال الطغيان والاستبداد التي تستحكم كل شيء في الوطن من حجر وبشر وخيرات... ليس ذلك ما حدث ويحدث في الثورات كما توحي بذلك تداعيات وأجندات الثورات... القصة أن الثورات كشفت عن مستندات الذهنية العربية السرية، كشفت أنها لم تكن في علاقة حقيقية مع الأوطان (لم تكن العلاقة التبادلية مع الوطن حقيقة/ وما العلاقة بالوطن المقدس إلا غشاءً رقيقاً تهتك مع سخونة الثورات وتطاولها). الذي أعنيه أن الوطن بوصفه حيزاً جغرافياً وحيزاً تاريخياً وثقافياً يشتمل الأفراد بوصفهم مواطنين، كما يشتمل المكونات الثقافية والإثنية بوصفها مكونات وطنية لم يكن حاضراً أو جزءاً ثابتاً مقدساً في مخيال اللاوعي العربي بل كان متهدماً من الأعماق عبر الأمداء... وما فعلته الثورات أنها سرعت في استكمال تهديم المهدم من قيمة الوطن الذي بني على غير أساس وطني عميق ومستحكم صلب المفاصل... مع الربيع العربي انكشفت الجغرافيا الحقيقية وتمزقت الجغرافيا الافتراضية معلنة عجز الكانتونات العشوائية (الدول العربية ككانتونات عشوائية موقتة لا تحمل شروط الديمومة) عن التماسك أمام ضربات الواقع القار في لا وعي المجموعات التي لا تعترف بغير الجغرافيا التي تنتمي إليها (طائفياً/ عرقياً) تلك المجموعات أو المكونات انخرطت في التحول عن الهوية الوطنية إلى حيث الهوية المذهبية، أو العرقية واللغوية الضيقة متخلية عن فكرة الوطن/ وليس ذلك انقلاباً على الوطن بقدر ما هو إعلان عن عدم وجود الوطن المشتمل على المشروطية الوطنية التي تمنح المواطن كامل حقوقه، إضافة إلى عجز الوطن العربي أو القطر العربي عن أن يتفوق على الهويات الضيقة، وذلك ما جعل تلك الهويات تسمي أوطانها بحسب جغرافيا هوياتها الخاصة (إذ تتحول الهوية الضيقة المذهبية إلى وطن وجداني يقدم على الوطن الجغرافي حتى وإن تباينت أوطان معتنقي ذلك المذهب)... يتجلى كل ذلك ويتكاثف اليوم في سورية (نموذجاً)، إذ احتراب العرب مع العرب انخراط العرب من خارج الوطن السوري إلى داخله للاحتراب كلٌ مع نظيره المذهبي كإعلان من لاوعيهم عن أوطانهم الشعورية، السني مع السني، الشيعي مع العلوي، وهلم، ليتكشف أن الوطن (سورية) لم يكن وطناً حقيقياً وليتكشف أنه يضيق بأهله وأن الوطن عرض والهويات الفرعية جوهر، وما كان الوطن إلا صرح من خيال واستبداد فهوى... لست أمارس الجلد وإنما أحكي واقعنا الذي سمحنا أن يتحول إلى هذا المصير بفعل تراكم ضياع الحقوق وتقهقر القيم التي ترسخ عقيدة الوطن التي تجلت من خلال الظلم المنهجي في اضطهاد الهويات والأقليات التي خلع عنها جلباب الوطن والوطنية قسراً لمصلحة هويات أخرى وأخطاء كثيرة جعلت الأوطان أضيق على المكون والنسيج الاجتماعي والتعددي. «الحصاد»، الأصوليون كانوا جزءاً من التأزم في تضييق الأوطان ذلك أنهم يتجاوزون في ماهية الوطن بتعاليهم على الدولة القطرية إلى وهمهم الكبير الدولة الأمة... النخب السياسية العربية ضيقت الأوطان على الشعوب من خلال خطايا لعل أهمها الإسهام في تكاره الثنائيات والتعدديات حتى تظل تتنابذ لمصلحة تقوي وتفرد حكومات الاستبداد من دون النظر للمآلات الكارثية... في مصر التاريخ، مصرالتعددية والحضارات، بدأت هويات وتيارات أصيلة تضيق بها أرض مصر، وأقول مصر، لأنها آخر معقل يفترض المخيال ضيقها بأهلها، كما العراق ولبنان ودول عربية وخليجية أخرى طفح كيل تماسكها وتشبثها بقداسة الوطن... حتى العلية من النخب الثقافية العربية جرفتها الهويات وتدحرجت معها على حساب القيمة الوطنية، لنكتشف أن الحدود ما بيننا والأوطان الثقافية والإثنية أكثر تغلغلاً من تغلغل الوطن التقليدي، إذاً نحن أمام انكفاءات وردات وعي هويات تعود عن واقع الوطن الهامشي إلى الأوطان الرغبوية الأولى. * كاتب سعودي. [email protected] @abdlahneghemshy