تكشف أزمة اللاجئين السوريين في لبنان، والذين يقارب عددهم نصف المليون، من بين ما تكشفه، واقعاً لبنانياً كارثياً تطغى فيه الحسابات الضيقة والمصالح المتفرعة إلى حد تهديد ما تبقى من الدولة والنسيج السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الأمني للبلد. وكما في كل شؤون البلاد تقريباً، عمدت الطبقة السياسة اللبنانية، مؤيدة للنظام كانت أم معادية له، إلى استغلال موضوع اللاجئين في خدمة أهداف خاصة سياسة ومذهبية وأمنية. ويشكل إنشاء مخيمات للاجئين نموذجاً على هذا الأداء السياسي اللبناني. ففي وقت مبكر جداً ومنذ تشرين الأول (أكتوبر) 2011 حين لم يكن يتجاوز عدد اللاجئين السوريين المسجلين لدى الأممالمتحدة 3643 لاجئاً، نادى تيار المستقبل وقوى سنية مختلفة إلى إقامة مخيم للاجئين. ولم تكن الغاية من النداء إنسانية بقدر ما تقصّدت إضعاف موقف النظام السوري حينها من خلال اتهامه بتهجير شعبه وبهدف إدانة الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي وأكثرية 8 آذار بإهمال موضوع اللاجئين. لقد تغاضت هذه القوى تماماً عن التبعات الاجتماعية والأمنية للمخيمات، خصوصاً إن لم تدر بشكل صحيح، والتي من شأنها أن تصبح بيئة سهلة للعسكرة وتهريب السلاح بحسب مسؤولين في الأممالمتحدة. وبدوره، أعطى حزب الله هواجسه الأمنية الأولوية المطلقة على أية معطيات أخرى، فرفض إقامة تلك المخيمات ولا يزال يرفضها حتى اليوم على رغم التدفق المتزايد للاجئين الذين قد يصل عددهم إلى مليون في نهاية العام بحسب تقديرات الأممالمتحدة، وعلى رغم تأكيد الجهات الإغاثية جميعها أن إنشاء مخيمات قد أصبح حاجة ملحة. ومن جهته لم يتوان التيار الوطني الحر بزعامة ميشال عون عن اللعب على الوتر المذهبي، مشبهاً الوجود السوري بالوجود الفلسطيني الذي حُمِّل مسؤولية الحرب الأهلية بين 1975 و1990، مفاقماً بذلك مخاوف المسيحيين، وهي هواجس يتقاسمها «الشارع العوني» مع «الشارع المسيحي في 14 آذار» وإن أحجم مسؤولو التكتل عن البوح بذلك. هذا الأداء للطبقة السياسية ليس بجديد فهو ينسحب على كل الملفات تقريباً. إلا أن لبنان يشارف على نقطة الانهيار، ولهذا الأداء نتائج خطرة. في أي مكان تترتب على مسألة اللجوء بحجم اللجوء السوري مسؤوليات وأعباء كبيرة على البلد المستضيف. أما في لبنان الذي يعاني عجز الدولة وهشاشة المؤسسات وشح الموارد وانهيار البنية التحتية وانقسامات مذهبية وسياسية حادة، أضف إلى ذلك تاريخاً طويلاً ومعقداً من العلاقات مع جارته سورية، فإن النتيجة تصبح كارثية بالنسبة إلى اللبنانيين والسوريين على السواء. الحاضنة الطبيعية يعتقد الكثيرون أن المناطق اللبنانية التي يغلب عليها الطابع السني هي الحاضنة الطبيعية للسوريين ذات الأكثرية السنية. وإن لاقى السوريون استقبالاً وتعاطفاً في بداية الثورة في عكار وطرابلس وبعض قرى البقاع، إلا أن الواقع أكثر تعقيداً يتداخل فيه الاقتصاد والاجتماع والتاريخ إلى جانب العنصر المذهبي. فالمناطق «الصديقة» للثورة ليست بالضرورة «صديقة» للاجئين. في هذه المناطق، كما في غيرها، يؤدي الوجود السوري الذي أصبح ملموساً في مختلف مجريات الحياة اليومية اللبنانية تقريباً إلى تشنج كبير. يحمّل اللبنانيون ضيوفهم مسؤولية إحداث تغييرات في مختلف أوجه حياتهم من تنامي انعدام الأمن الهش أصلاً وتفاقم الأزمات المرورية المأزومة والارتفاع الهائل في أسعار إيجارات الشقق إلى المنافسة في سوق العمل وزيادة معدلات الجنوح. أما السوريون، فيشكون أشكالاً مختلفة من سوء المعاملة من الشتائم والتعليقات المهينة والاستغلال وحتى الاعتداء على يد العديد من اللبنانيين. لقد أضافت الأزمة السورية صورة نمطية جديدة إلى التوصيفات التي كان اللبنانيون يضعون السوريين فيها. إلى العامل المياوم المتدني الدخل وغير المتعلم أو عنصر الاستخبارات الذي مارس الانتهاك والإجرام بحق اللبنانيين، تتقدم اليوم صفة اللاجئ على «السوري» في لبنان. طبعاً، في الأوساط الشيعية والمسيحية، تصاحب تلك المشكلات هواجس أمنية ومذهبية. في المناطق ذات الغالبية الشيعية التي بدأت تشهد وصول أعداد متزايدة من اللاجئين، يرى الكثيرون في هذا التكاثر مؤامرة هدفها الهجوم على حزب الله في مرحلة لاحقة. أما بالنسبة إلى العديد من المسيحيين، فباتوا يرون في الوجود السوري تهديداً للتوازن المذهبي الهش أصلاً. تعيدهم موجات اللجوء السورية إلى تجربتهم مع الفلسطينيين الذين تحوّلت استضافتهم القصيرة نظرياً إلى وجود عسكري مستمر وسني على الأغلب. أما أداء القوى السياسة تجاه الصراع في سورية، فلا شك في أنه يفاقم هذه المخاوف، ويساهم في تقوقع كل طائفة على نفسها، يدفعها إلى حشد أبنائها وشد عصبها ظناً منها بأنها تخوض معارك وجودية. أصبح انخراط حزب الله في سورية علنياً. ما بدأ بوصفه مساعدة متواضعة نسبياً للنظام تنامى واتسع بمرور الوقت إلى ما يبدو أنه أصبح دعماً عسكرياً مباشراً وهو مرشح إلى التصاعد. الغارات الجوية الإسرائيلية الأخيرة ضد أهداف في سورية - والتي يقال إنها استهدفت شحنات أسلحة إيرانية موجهة إلى الحزب الشيعي - والخطاب التصعيدي لحزب الله تعكس احتمالات متزايدة لتشابكات إقليمية يشكل لبنان طرفاً فيها. أما القوى السنية، والإسلامية منها على وجه الخصوص، فيعتريها شعور بالاستقواء. انخرط بعضها في تهريب السلاح إلى المعارضة وانضم بعضها الآخر إلى الصراع في ما أصبح المقصد المفضل للجهاد، وإن لا يزال يأخذ أشكالاً كاريكاتورية. ويأتي دور بعض المنظمات الإسلامية الخيرية والإغاثية لاستكمال المشهد. إذ تحت راية مساعدة اللاجئين، يشكل عدد منها أداة تعبئة ضد الشيعة والعلويين ينذر بإنتاج جيل راديكالي من السوريين على غرار اللبنانيين أنفسهم. تاريخياً، ارتبط مصير لبنان دائماً بمصير سورية. مع توجه سورية أكثر فأكثر نحو الكارثة، هناك ما يبرر شعور العديد من اللبنانيين بالخوف والقلق. للأسف، قد يكون الأوان قد فات على إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء والعودة إلى سياسة عدم التدخل في الحرب السورية، فنادراً ما شعرت الأطراف اللبنانية بالتقيد بأي قرار رسمي ولطالما لاحقت أهدافاً خارج المصلحة العامة. لكن إذا كانت القوى السياسية لا تستطيع الاتفاق على ما ينبغي فعله في سورية، فإن في وسعها على الأقل الاتفاق على مقاربة عقلانية حيال مأساة اللاجئين، وهي أزمة لا تخاطر بتمزيق النسيج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للبنان فحسب بل تنذر بإشعال صراع داخلي جديد لا تستطيع دولة لبنانية ضعيفة ومنطقة شديدة التقلب تحمّله. * محللة سياسية في «مجموعة الأزمات الدولية»