نشرت لجنة تابعة للأمم المتحدة هذا الأسبوع، تقريراً أجراه محققون حول الوضع في سورية، جاء فيه أن النزاع في هذا البلد أصبح طائفياً بشكل واضح. وذكر التقرير أن التوتر يُظهر، بما لا يقبل الشك، أن القتال قد انحرف عن خطه السابق بحيث تحول إلى خطر على الوجود بين الطوائف المتناحرة. وفي هذا السياق، خلص أحدث تقرير لمحققين تابعين للأمم المتحدة، إلى أن النزاع في سورية بدأ يأخذ طابعاً طائفياً متزايداً. واتهم القوات الحكومية والميليشيات التابعة لها باستهداف المدنيين السنّة، فيما اتهم القوات المعارضة للنظام باستهداف العلويين والأقليات الموالية للحكم. وتشير تلك التقارير إلى الهجرة الصامتة التي بدأت في أوساط المسيحيين السوريين الذين يتخوفون من هجمات ضدهم، كتلك التي نفذتها «القاعدة» ضد مسيحيي العراق خلال السنوات الأخيرة. وكانت شخصيات من أمثال المبعوث الأممي-العربي الأخضر الإبراهيمي، وأمين عام الجامعة العربية نبيل العربي، وأمين عام المؤتمر الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلو... قد حذرت من أن سورية بدأت تنزلق إلى حرب أهلية بين الطوائف، لذلك دعت إلى الحوار بين الدولة والمعارضة من أجل إيجاد حل وطني. وهذا ما طالب بتنفيذه نائب الرئيس السوري فاروق الشرع، الذي أكد في حديث لصحيفة «الأخبار» اللبنانية، أن أياً من نظام بشار الأسد أو معارضيه غير قادر على حسم الأمور عسكرياً في النزاع المستمر منذ 21 شهراً. ودعا الشرع -الذي اقترحته تركيا لتولي مسؤولية المرحلة الانتقالية- الى وقف كل أشكال العنف وتأليف حكومة وطنية تكون مسلحة بصلاحيات واسعة. ووصف مهمة تلك الحكومة بالانفتاح على كل المبادرات التي من شأنها إنهاء الأزمة بالحوار والطرق السياسية السلمية. وهذا ما طالب بتحقيقه بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي، داعياً الى نبذ العنف واللجوء إلى الحوار. وقال البطريرك في مؤتمره الصحافي الأول الذي عقده في دمشق: «نحن نؤمن بأن وجه المسيح لن يغيب عن المنطقة التي انطلقت منها المسيحية. لقد كنا موجودين في هذه البلاد... وسنبقى فيها -مسيحيين ومسلمين- نواجه الصعوبات معاً، ونعمل على تجاوزها بالحوار المثمر». ويشكل الأرثوذكس غاليبة المسيحيين في سورية، البالغ عددهم زهاء مليون و800 ألف نسمة. وقد تعرضت هذه الطائفة لسلسلة أحداث دموية كان أبرزها اغتيال الأب فادي حداد، كاهن كنيسة مار الياس في قطنا. ووفق بيانات «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، فإن الأب حداد كان يقوم بمهمة إنسانية لتحرير مخطوفين، عندما خطفه مسلحون وذبحوه من الوريد إلى الوريد، ورموا جثته في بلدة «دروشة» القريبة من دمشق. بيان الإستنكار الذي أصدرته الطوائف المسيحية تحاشى لهجة الانتقام والاقتتال الطائفي، وشدد على إدانة الحادثة باعتبارها عملاً همجياً يمسّ كل مواطن سوري. وأشار البيان إلى أيدٍ أجنبية دخيلة تقف وراء حدث يمكن توظيفه طائفياً لتأجيج النزاع وزيادة حدته. والهدف - كما لمّحت التصريحات- يقود إلى تخويف المسيحيين وإرهابهم بحيث يغادرون البلاد إلى غير رجعة. والثابت تاريخياً أن مسيحيي سورية لعبوا أدواراً سياسية وثقافية واقتصادية يصعب إنكارها أو تجاهلها، ففي مرحلة الانتداب الفرنسي مثلاً، شارك المسيحيون في حركات النضال التي أدت إلى طرد الغزاة واستعادة الاستقلال والسيادة. ومن أبرز شخصيات تلك المرحلة فارس الخوري (وهو من بلدة الكفير في جنوب لبنان) الذي اختير أول رئيس وزراء لحكومة الاستقلال. وكذلك ميشال عفلق، أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي. ويقول المؤرخون إن عدد المسيحيين في سورية قد ازداد عقب المجازر التي ارتكبت ضد الأرمن الذين لجأوا إلى حلب وجوارها بحثاً عن الأمن والحماية. وفي مرحلة لاحقة هرب عدد كبير من الأشوريين إلى سورية (منطقة الجزيرة) بعدما اضطهدهم العراقيون وقاموا بإبعادهم. أما اليوم، فإن «الربيع العربي» في سورية بدأ في 15 آذار (مارس) 2011 بإضرابات سلمية غير مسلحة، بهدف تأمين عيش كريم والتخلص من تسلط نظام الحزب الواحد مدة تزيد على نصف قرن، ولكنه انتهى بعد 21 شهراً إلى خلافات طائفية -بل مذهبية وعنصرية- قد تؤثر على نسيجه الوطني وتفكك عناصر لحمته. وفي هذا الشأن، يقول تقرير الأممالمتحدة: «إن النزاع يؤثر على كل الأقليات في سورية، بمن فيها المسيحيون والأكراد والتركمان. ومثل هذا التطور المفاجئ دفع هذه الأقليات إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسها. كما أجبر بعضها على الانحياز إلى أي من الطرفين المتحاربين». ومن المؤكد أن عمليات القصف الجوي لمخيم اليرموك قد زادت من حدة الشرخ الوطني، خصوصاً بعد نزوح عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان، هرباً من الغارات المتواصلة التي استهدفتهم على مرحلتين. وفسرت دمشق تلك الغارات بأنها نوع من التأديب لجماعة «فتح» و «حماس» ومختلف الحركات المؤيدة لمحمود عباس وخالد مشعل. وقالت إن التظاهرات التي خرجت من المخيم لا تدل على الوفاء لدولة احتضنتهم وعاملتهم معاملة المواطنين. ولكن معارضي النظام السوري في لبنان لم يقبلوا هذا التبرير، وقالوا إن دولة الأسد تسعى إلى تحميل لبنان كل المتاعب المتأتية عن مسؤولية مخيمات اللاجئين. والدليل أن وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد رفض استقبال ياسر عرفات ومجموعته المقاتلة الهاربة من الأردن سنة 1970، وأوصى بضرورة فتح طريق المصنع كي يسهل الدخول منها إلى لبنان. وبعد مرور أقل من سنتين، انفجر الوضع بين حزب الكتائب ومنظمة التحرير، كما انفجر الوضع أيضاً بين زهير محسن و «صاعقته» المنتمية إلى دمشق وبين القوى المؤيدة لعرفات. وبسبب تلك التناقضات السياسية، اشتعلت حرب 1975 في لبنان، الأمر الذي سهَّل دخول القوات السورية وبقاءها مدة ثلاثين سنة تقريباً. وفي ضوء تلك الخطة التي دشنها حافظ الأسد سنة 1970، تظهر عمليات تفريغ مخيم اليرموك من سكانه الفلسطينيين، وإجبارهم على النزوح الى لبنان، كأنها تتمة لمشروع تفجير الوضع اللبناني برمته. ومن المتوقع أن يكون فتيل التفجير مبرمجاً عقب انهيار النظام السوري وازدياد الأعداد الهاربة من مخيم اليرموك، بحيث يشعر الشيعة في لبنان أن الميزان الديموغرافي لم يعد يعمل لصالحهم. يوم السابع عشر من هذا الشهر، عقد في السراي الحكومية في بيروت اجتماع ثانٍ برئاسة نجيب ميقاتي رئيس الحكومة، حضره ممثلون عن الدول والهيئات المانحة. كانت الغاية من ذلك الاجتماع وضع خطة، بالتعاون مع الأممالمتحدة، تقضي بمشاركة المنظمات الإنسانية والهيئة العليا للإغاثة. لكن استغاثة الحكومة اللبنانية لم توقف موجات اللجوء من مخيم اليرموك. والدليل أن أمين عام الأممالمتحدة بان كي مون، حذر من تحويل سورية إلى ساحة قتال إقليمية، مثلما كانت إسبانيا آخر الثلاثينات. وقال أيضاً إنه يشعر بقلق عميق من العسكرة المتواصلة للنزاع والانتهاكات المقيتة لحقوق الإنسان، وخطر تحول سورية إلى ساحة اقتتال إقليمية. ودعا الأسرة الدولية إلى دعم جهود المبعوث الخاص للأمم المتحدة والجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي. ولكن تركيا لم تقبل بهذا الاقتراح. وأعلن وزير خارجيتها داود اوغلو: «إن الحل العملي يبدأ بعملية انتقال السلطة وفقاً للمطالب المشروعة للشعب السوري. ولكي يحصل هذا الأمر، يجب على الأسد وعشيرته (يعني العلويين) ترك السلطة في المقام الأول، وتمهيد الطريق للتوصل الى حل سياسي. ذلك أنه لم يعد ممكناً للأسد أن يشارك في أي حل سياسي. وقد أعلنت المعارضة الممثلة بالائتلاف الوطني السوري أنها لن تتفاوض مع النظام». وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف اتهم نظيره التركي والإدارة الأميركية بتجاهل مقررات مؤتمر جنيف، وما تضمنته من حرص روسيا والصين على احترام كرامة الرئيس بشار الأسد والمحافظة على سلامة عائلته. كذلك ذكر البند الأول من وثيقة جنيف، اهتمام موسكو وبكين بضرورة مشاركة الأسد في عملية التغيير، على ضوء ما تحدده الانتخابات العامة التي تجري بإشراف مراقبين من مختلف الدول العربية والأجنبية. استناداً إلى تجربته السابقة خلال الحرب اللبنانية، يحاول الأخضر الإبراهيمي ألا يحرق أصابعه بنيران التسوية الدولية التي ضمنت له في «الطائف» نجاحاً باهراً. ومن المؤكد أنه عرض على الرئيس بشار الأسد حلاًّ تطالب به المعارضة، يبدأ بتنحيه عن الحكم. ومن المؤكد أيضاً أن الأسد كرر أمامه ما قاله لقناة «روسيا اليوم»: «أنا لست دمية، ولم يصنعني الغرب كي أذهب الى الغرب أو أي بلد آخر. أنا سوري. أنا من صنع سورية. وسأعيش وأموت في سورية». وفهم الإبراهيمي عبر هذا الكلام، أن تسوية المرحلة الانتقالية لا تتم من دون موافقة الأسد، كما أنها في الوقت ذاته لا تتم من دون موافقة جبهة المعارضة ومَنْ يدعمها من قوى خارجية وعربية، ولهذا قرر الانتقال إلى موسكو لعله يُقنع فلاديمير بوتين بالتدخل العاجل في مسألة يصعب تأجيلها الى حين حلحلة الأمور مع الولاياتالمتحدة. خصوصاً أن بوتين كان قد حذر من مخاطر المماطلة عندما قال: «نحن مع التوصل إلى حل للمشكلة ينقذ المنطقة والبلاد من التفكك أولاً... ومن حرب أهلية لا تنتهي ثانياً. موقفنا ليس الاحتفاظ بالأسد ونظامه في السلطة بأي ثمن». وبناء على هذا الموقف، ينتقل الإبراهيمي إلى موسكو لعل الرئيس الروسي يتدخل لرسم خطوط التسوية... قبل أن يتدخل نظيره الأميركي لرسم خطوط الحل على طريقة كلينتون، الذي حسم بتدخله مصير حرب البلقان! * كاتب وصحافي لبناني