تقول الرواية التاريخية إن فارساً عربياً قدم من دلتا مصر البهية، ممتطياً صهوة جواده، ووقف على أعتاب «القيروان»، بعد أن أضناه التعب والعطش، مطلقاً مقولته التاريخية إنها «لتؤنس هذه الأرض الخضراء»، بالطبع قالها بعد وحشة الآلاف الكيلومترات، قضاها سائراً في بوادي الصحراء منذ غادر نهر النيل، وحتى رأى تلك العيون الساحرة، لتغدو بعد ذلك اسماً دائماً لتلك الأرض، وبالمقولة نفسها «تونس الخضراء». اليوم وبعد 1400 عام على قول فارسنا العظيم، وطلته البهية، يبدو أن «تونس» التي رآها وأحبها فارسنا العربي، لم تعد هي «المؤنسة» في وحشة إفريقيا وصحرائها الكبرى. بل إن تونس اليوم الأربعاء «22 - 5 - 2013»، ليست أفضل حالاً من تونس «22 - 5 - 2010»، أي قبل ثورة الياسمين، بل إنها لم تعد تقترب من أي مقياس من مقاييس الحياة الجيدة للإنسان، وها هي الأرقام الصادرة من مراكز البحث الأوروبية، تضعها مع الدول الأقل أمناً، والأقل نمواً، والأعلى مديونية. تلك المعايير الصارمة لا تُعنى بمرجعية الحاكم الدينية، ولا أصله وفصله، وهل هو إخواني مرتبط بالمقطم في مصر، أو «الإستانة» في اسطنبول، أم هل كان يناضل في مقاهي «الشانزلزيه»، بل هي مدخلات من المعلومات الاقتصادية والاجتماعية المتوافرة، ومخرجات من النتائج المؤكدة. بل حتى على مستوى الحريات العامة، التي طالما تغنى بها الإنسان التونسي، يبدو أن حكام تونس اليوم هم أكثر دموية، وأشرس فعلاً، وأقل تسامحاً، وأقسى في تعاملهم مع شعب «تونسهم الخضراء». بالطبع «ألف ألف» مرة... أنا لا أدافع عن نظام «ابن علي»، ولا غيره من الأنظمة المستبدة، أنا مواطن عربي، أرى أن تونس الأمس، التي أعرفها ويعرفها شقيقي التونسي، كانت أفضل ألف مرة من تونس اليوم، تحضراً وتمدناً واقتصاداً، بل وحريات عامة. بالتأكيد ما حصل لنظام «ابن علي» كان لا بد من أن يحدث، إنه سياق التاريخ، فتلك الخلطة العجيبة بين من يحكم، ومن يخلد نفسه، مضافاً إليها اختلاط المال بالسياسة، هي من أفسدت العلاقة بين الأنظمة العربية وشعوبها، ودفعتها لتحقد عليها، بل وتنفر منها إلى الغيلان القاتلة. ولا يقولن لي أحد أن الحكام الجدد هم أكثر نزاهة، وأكثر استقلالاً، وأقل جشعاً، فقد تسلموا تونس، وهي في أفضل عهودها اقتصاداً، وسياحة وإنتاجاً وتعليماً. فإذا كانت تونس الصغيرة المساحة والقليلة الشعب، يفشل في حكمها مدعو الإسلام السياسي، والمستلَبين لحكم «قناة الجزيرة»، فكيف بهم في حكم مصر، أو غيرها من الدول الأعمق والأكثر مشكلات. اليوم تونس الخضراء، تخضبها ألوان الدم الحمراء، ويشكو قيروانها «المالكي»، من غزوات شذاذ الآفاق الذين حملوا غبار الصحراء في جيوبهم وعقولهم، لينثروه سحراً أسود في شوارعها، وفي مزارع الزيتون والليمون والبرتقال. وتتراجع عجلة الإنتاج والاقتصاد فيها إلى مراتب متدنية، وتكاد تفقد ريادتها السياحية في المنطقة، وتتراجع الحريات الفكرية والأدبية والصحافية، وتسلب النساء والمجتمع المدني من كل ما حققه، إثر نضال مضنٍ ضد استعمار فرنسي تارة، وضد استعمار الدولة تارة أخرى. [email protected] @dad6176