صادمةٌ تلك الأرقام التي أوردها المرصد السوري لحقوق الإنسان في آخر تقاريره عن ضحايا الثورة السورية، إذ أكد مقتل ما يقارب ال35 ألف شاب علوي يتحدر معظمهم من مناطق الساحل، مشيراً إلى أن عدد الخسائر البشرية في صفوف عناصر القوات النظامية من الطائفة العلوية يفوق ال24 ألفاً، بينما عدد عناصر الشبيحة واللجان الشعبية وقوات الدفاع الوطني من العلويين، يتجاوز ال17 ألفاً. وحين نعلم أن العدد جزء من حصيلة أشمل تصل إلى 94 ألف ضحية تضم جميع القتلى منذ اندلاع الانتفاضة في سورية، فإن عملية حسابية بسيطة تظهر لنا أي ثمن دفعه العلويون منذ سنتين حتى الآن. الطائفة التي انحازت إلى نظام الرئيس بشار الأسد والتي لا تتجاوز نسبتها من عموم الاجتماع السوري أكثر من 12 في المئة، قتل من شبابها 35 ألف شاب بينما حصد الصراع الدائر منذ فترة 59 ألفاً من بقية السوريين وأكثرهم من السنّة. تبدو هذه المقارنة مغرية لانتشال الجسم الأهلي العلوي من تلك الأوهام التي وضع نفسه فيها مستسلماً لسموم العقل الأمني الأسدي. حيث إن الدفاع عن الوجود عبر الوقوف مع نظام الأسد المستبد استلزم كل هذا النزف من الشبيبة العلوية، فيما التهديد الخرافي، حتى لو تحقق، لن يصل بالتأكيد إلى هذا الحد. العلويون لو دخلوا حرباً أهلية ضد الأكثرية السنّية التي تريد إبادتهم، وفق المخيال الطائفي، لما وصل عدد ضحاياهم إلى الرقم الذي ذكره المرصد السوري. من الواضح أن النظام لم يكتفِ بزرع الرعب المصيري في نفوس أبناء الطائفة العلوية، فقد نفذ سناريوات هذا الرعب عبر سيل الجثث التي تصل يومياً إلى قرى الساحل ويقال لأهلهم إنهم قتلوا على أيدي الإرهابيين المتطرفين (السنّة). الجثث هي المادة الإقناعية التي يستخدمها النظام لإقناع الموالين بالاستمرار معه. كما كانت سابقاً مادة لإقناع الخصوم بعدم تحديه أو معارضته (ألم يستخدم النظام جثة رفيق الحريري لإرهاب اللبنانين وتحذيرهم من طلب استقلالهم). لكن الأرقام التي ذكرها المرصد تكشف من ناحية أخرى، غباء تلك الدعوات التي وجهتها بعض الجهات في المعارضة لقصف القرى العلوية باعتبار العلويين قتلة ومجرمين يقومون بإبادة الأكثرية السنّية وتهجيرها من مناطقها. إذ كيف يمكن جماعة أن يقتل من أبنائها 35000 شخص أن تكون في الوقت ذاته قاتلة ومجرمة؟ هذا الكلام ليس مرده القياس على الضحايا والخروج بخلاصات أخلاقية بل هو أقرب لدحض تلك السردية التي سعى معارضون إلى بنائها بخبث ودهاء، بهدف أبلسة العلويين ووضعهم موضع الآلة العسكرية للنظام السوري التي تفتك بالبلد بشراً وعمراناً. يأتي هذا بعد سنتين على اندلاع الثورة السورية. سنتان حملتا الكثير من التحولات حيث باتت السردية الأصلية للانتفاضة حول نظام يواجه ثورة أقرب إلى الكلام الطوباوي منه إلى الواقع. لقد دخل على هذه السردية الكثير من العناصر مصدرها الصراعات الإقليمية والطائفية المحتدمة في المنطقة. وإذا كان الموقف الأخلاقي يقتضي التعامل من الثورة بصفتها حقاً ضد نظام ظالم فإن السياسة تقتضي أيضاً التعامل مع نتائج الثورة للحصول على الحق من دون أن ينتج ظلماً جديداً. معنى ذلك، التعاطي مع العلويين بصفتهم طرفاً في صراع يدفعون ثمنه، وليسوا جزءاً من نظام لم يجدوا سواه للاصطفاف خلفه وترجمة الهواجس الحاضرة بشدة في مخيالهم الطائفي. لو نحّينا النظام جانباً بصفته آلة مافيوية عسكرية عائلية تستثمر مخاوف العلويين، لوجدنا أن شوارع سورية في الوقت الراهن تحتضن معارك بين طرفين يدفعان ثمن واقع تاريخي ابتلي به هذا المشرق. كل طرف ينظر إلى نفسه من خلال مظلومية يتوقع حصولها في ما لو خضع لخصمه. لم يعد مجدياً التعامل مع مبدئية الثورة بالقول: لن نجلس مع نظام مجرم وقاتل إلى طاولة مفاوضات. فقد بات لزاماً على المعارضة أن تجلس مع الجسم الأهلي الذي يقوم النظام باستثمار مخاوفه. استناداً إلى ذلك، من الملحّ البحث عن ممثلين للعلويين لا ينتمون إلى الإرث الأسدي، ممثلين عن خمسة وثلاثين ألف جثة، هم، بلا شك، ضحايا مثلهم مثل بقية شهداء الثورة السورية. * كاتب سوري