خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، وأثناء نشوب الحرب الأفغانية – السوفياتية، شاع بين العامة ما عُرف آنذاك بكرامات الجهاد والمجاهدين. ولعل «عبدالله عزام»، أحد رموز وشيوخ الجهاد في أفغانستان، هو من أسهم في تسريب تلك الخرافات تحت شعار الكرامات، وذلك من خلال كتابه الشهير «آيات الرحمن في جهاد الأفغان». وكما يتبين من العنوان، فقد شحنه مؤلفه بما تفتق عنه الخيال من حكايات خوارقية حول معجزات المجاهدين في محاربة الروس الكافرين. وعلى رغم ما كان يعتور تلك المرويات الجهادية من تجاوزات غير موضوعية ومن خروقات لقوانين السببية، إلا أن العامة تلقتها بالقبول والتصديق نتيجة لتمدد الأصولية الدينية وهيمنة العقلية الأسطورية. من أمثلة ما كان يحكى في المساجد والمدارس والمجالس من عجائب الجهاد والمجاهدين: أن دبابة روسية سارت فوق جسد مجاهد أفغاني فلم يمت، ثم عادت ومشت عليه مرة أخرى فلم يمت. فأخذه الروس ومعه اثنان من الأفغان، فأمطروهم بوابل من الرصاص، فسقط الثلاثة على الأرض، ثم دفنوهم. ولما انصرفوا عنهم، خرج الأفغاني من تحت التراب بلا خدش يتيم ليلتحق بأخوته المجاهدين! ومن ذلك أيضاً، ما يقال إن المجاهدين كانوا يدخلون المعركة فيخرجون بثياب قد نخلها الرصاص نخلاً، ولكن من دون أن تلج رصاصة واحدة أجسادهم! لقد استعان عزام وبذكاء بما لديه من مطالعات متعمقة في كتب التراث وكرامات الأقدمين، وبكل ما أوتي به من خيالات في تشييد عوالم سحرية أسهمت في إغواء الشباب واجتذابه. الحكايات الخوارقية للمجاهدين هي إحدى تمظهرات العقل العربي الذي لا يزال يسبح في فضاءات السحر والأسطورة. وعلى رغم تهافت كرامات الأفغان وانكشاف زيفها وبيان خطلها، فالعقل العربي لا يزال لديه القابلية لإعادة توليد الخرافة. فهذا الشيخ محمد العريفي يزف للأمة نبأ نزول الملائكة من السماء فوق صهوات الجياد للقتال إلى جانب الثوار في سورية! ولو أن الشيخ تفكر وتدبر، لعلم أن الملائكة متى خاضت غمار الحرب ضد النظام وشبيحته فإن المعركة لن تلبث إلا ساعة... ولكن قاتل الله العجلة! كما كان «عبدالله عزام» يملأ صفحات كتابه بكرامات نما خبرها إلى مسامعه من رجال ثقات، فالعريفي فعل الشيء ذاته نقلاً عن رجل ثقة. إنها ثقافة المشافهة والعنعنة التي لا تزال تمسك بتلابيب العرب منذ قرون! الاحتكام إلى الروايات الشفهية في توصيل الأخبار وتوثيقها، فضلاً عن إعادة اقتباس الصور القديمة (ملائكة فوق ظهور الجياد) يكشف لك الضغوطات التي يمارسها الماضي بأحماله الثقيلة على العقل المعاصر، لدرجة التحكم حتى في مكونات الصورة وأبعادها. تجذر اللاعقلانية، ومخاصمة مبدأ العلية، ومجافاة العلم والموضوعية، ليست نتاجاً موروثاً عن عصور الانحطاط والظلامية كما يظن، وليست كذلك نتاجاً لما بذره «أبو حامد الغزالي» في عقل هذه الأمة من مبادئ الدروشة الدينية وأصول الفكر الغيبي، وإنما تمتد بعروقها إلى ما هو أبعد بكثير. ولو أنك عدت إلى ما خطه المؤرخون من مؤلفات لوجدت أنها تموج بمئات الصور اللامنطقية. فمن أمثلة تلك الصور: تكلم الحيوانات وبلسان عربي فصيح، وانتقال الأصوات عبر آلاف الأميال، وسماع لغة الجمادات، وانتقال النباتات وسجودها، وعودة الحياة للأموات وسماع أصواتهم، وما إلى ذلك من الأمور العجائبية. عندما وضع عبدالله عزام كتابه الآنف الذكر، حرص على تدبيجه بالعشرات من أمثال تلك الصور الغابرة لعلمه بأن الاتكاء على التراث بسلطته الطاغية سيمكنه من تسويق ما يُسمى بكرامات الأفغان. ولو لم تكن كتب التراث تحمل في أحشائها قصصاً عجائبية عن الأسلاف، لما حظيت كرامات الجهاد الأفغاني بالتعظيم والتصديق. لم تسهم كرامات الجهاد في أفغانستان في الكشف عن تفشي الخرافة فحسب، بل كان لها سهم في تحويل شريحة من الشبان العرب والمغرر بهم إلى خناجر في خاصرة أوطانهم بعد عودتهم من ميادين الجهاد في أفغانستان! [email protected]